مدونات

الظلم وصناعة النموذج العادل

"خيط رفيع بين العدل والظلم يتعلق بسلوك الفرد والمجتمع والدولة التي مهمتها الإنسان نفسه"- CC0
أمام الله:

إن أخطر نتائج الظلم على الظالم نفسه، خاصة عندما يظلم استقواء على من ليس له عزوة تردع الظالم، عندها سيكون الظالم أمام الله مباشرة وهو يحمل ظلما لتسديده ويتمنى له أنه لم يك شيئا، فالظالم يظلم نفسه بظلمه للآخرين لأنه يفقد الكثير بما لا يربح مقابله وقد يدخل الجنة بحسناته أناس ظلمهم كذلك يفعل الكيان وهو يمزق إنسانية الإنسان.

العلاقة مع الله تمثل حالة التوازن القيمي والتعاملات وتقود السلوك الهادف المبني على قيم، لأنها مصلحة الإنسان عندما يكون عمله ومعاملاته من خلال طلب رضا الله وليس نفاقا من أجل مصلحة آنية، فإن غابت المصلحة ساء السلوك أو على الأقل خرج من الاهتمام.

المجتمع:

التعامل مع القيم لا بد أن يكون عقلا تروض معه الغرائز، أما إثارة الغرائز بلا وجود واقع يتفاعل معها أو قيم فاعلة في المجتمع فهو محض تحفيز يولد البلادة واعتياد مخالفة القيم عن علم ومعرفة بها، فالقيم غير الفاعلة لا تتفاعل مع السلوك بشكل راسخ. وهنا لا يختلف الفاسد والناسك فالكل معرض للزلل، ولهذا نجد الوعاظ في المنابر يستثيرون غريزة التدين في ظنهم أنهم يُصلحون الناس، لكن الحقيقة أن الناس بعد خفوت الاستثارة يواجهون واقعا ليس ما استثار مشاعرهم فعلا، وربما الخطيب نفسه ينزل من المنبر شخصا آخر براغماتيّا.

القيم كأي زرع طيب يحتاج بيئة ورعاية، والأهواء كالأدغال لا تحتاج الكثير لتملأ المكان، إن القيم تحتاج أن تكون في القلوب المفكرة لا العواطف والانفعالات، أي تكون لها فلسفة ورؤية في أهمية السلوكيات المنبثقة عنها لبناء المجتمع وأمنه. التعامل إن ابتعد عن الله فالسلوكيات لن تكون إلا مرتبطة بما ينفع الفرد، لكن تضبطها القوانين بالعقاب.. لكن إدراك الأفراد أن الالتزام بالقيم هو سلامة للمجتمع وهم منه، وسيؤدي إلى انضباط يصبح في السلوك كالعادات والتقاليد، أما إن اتفق الحاكم والمحكوم على سوء التعامل مع الله والقيم فهو ظلم لأنفسهم قبل أي أحد، "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" (هود: 102).

لماذا الازدواج السلوكي:

ما ذكرنا هو أساس الازدواج السلوكي عند اختلاله، لكل منظومة قيم آليات حماية لسريانها، ولكل نظام آليات تطبيق. الاجتزاء يشوه ويضعف ويلاشي الفعل المؤثر لأي منظومة وليس للقيم فقط، فعندما تريد تطبيق النظام الرأسمالي، فلا بد من تغيير تفكير المجتمع وتهيئة أدوات النظام من منظمات ومنظومات وتطبقه كنظام متكامل، أما اجتزاء الآليات كالديمقراطية أو السلوكيات الليبرالية أو اجتزاء من اللب كالتعامل مع حالة في الاقتصاد أو البنوك أو أي جزئية، فهذا ظلم للمجتمع وإن كانت النية الإصلاح.

نفس الكلام صحيح على النظام الشيوعي الذي لم يصل للتطبيق لأنه عجز عن تجاوز مرحلة الاشتراكية والنتيجة، لقد أتعب المجتمع بلا آليات الرضا واستخدام العنف والاضطهاد لفرض سلطته، بل أغلب من اعتنق الفكرة في بلداننا وجدها وسطا ملائما لنمو بكتيريا وحشيته ووضاعته، ومنهم من ظن أنها الدرب الرشيد لكن لم تصل لقناعات حتى عند قادته في مرحلة التنفيذ وإسقاط الفكرة على الواقع، فنجد التحول الفجائي نهاية القرن مقابل الدخول الثوري في بداية القرن.

نفس الكلام يقال لمن يريد أن يطبق الشريعة الإسلامية مثلا وهو يأتي بأحكام غائبة لقرون ومنقطعة لألف وأربعمائة عام لم تتجدد ولم تفتح مثاني جديدة، فهذا ظلم للمجتمع ووسيلة لانحرافه ونشر النفاق وفشل النموذج المطلوب لفجر الإسلام، لكن بما يملك المجتمع من عاطفة وغريزة تدين فإن لم يطبق ما يناسب العصر فقد أثبتت التجربة حصول ارتداد ولدرجة الإلحاد والكفر، لأن النموذج الذي قُدم هو نموذج مشوه قاصر يطبقه أناس عقيمو التفكير والإبداع؛ تعمدا أو جهلا فهذه محاور أخرى للتقييم.

من الأولى صنع النموذج بما يعزز غريزة التدين لتكون مشبعة بفعل إيجابي، وتقوية الانتماء الشعوري إلى انتماء حقيقي ليكون مجتمعا صحيحا سليما ليس فيه من الأمراض ما تسيطر عليه وتفشل النموذج الذي سيكون قابلا للتوسع والتطوير.

الحالة نفسها يمكن إذا أن تكون ظلما إن وُضعت كقالب جاف تريد أن يتشكل وفقه المجتمع، وهي تكون عدلا عندما تبنى الحياة بأسلوب صحيح لا فرضا ولا جبرا، وإنما للإنسان أهليته يرشد إلى الطريق الصائب ولا يُجبر عليه لأنه قد يرفضه بداية لكنه سيعود له عند توازن منظومته العقلية، أما إن أجبر فسيكفر وإن لم يعلن كفره. وهنا نرى الخيط الرفيع بين العدل والظلم يتعلق بسلوك الفرد والمجتمع والدولة التي مهمتها الإنسان نفسه، وتوفير الأجواء لأهليته وبرامج التفكير والتطوير وتقديم القدوة والنموذج للمجتمع بفهم وعلم ورضا.