اليوم أسوأ من أمس
ليس في هذا القول تشاؤم محض، ولا تفاؤل أعمى، وإنما هو قراءة دقيقة للواقع الاجتماعي
والفكري والإنساني. نحن أمام زمن تتداخل فيه المعايير وتتساقط فيه
القيم كما تتساقط
أوراق الخريف، زمن يبدو فيه أن ما كان بالأمس، وإن بدا صعبا، يحمل من الخبرة والعبرة
ما يجعلنا ندرك خطورة الوضع الحالي، بينما اليوم، برغم محاولاتنا للتجديد، يبرز فيه
خلل الأدوات وفقدان الرؤية، أما الغد فهو الغموض بعينه، لأنه سيأتي بما زرعناه اليوم
وما أهملناه أمس.
ما معنى أن اليوم أسوأ من أمس؟
ليس في الأمر مدح للماضي، وإنما إدراك أن في حاضرنا عوامل هدم تحكم، وإذا لم
نواجهها ونعمل على إصلاحها، فلن يكون الغد أفضل أبدا. الأدوات التي يفترض أن تبني المجتمع
تعطلت أو شُوهت بفعل ازدواجية المسؤولين، وسيطرة أصحاب المصالح الشخصية على ما يفترض
أن يكون خدمة عامة، ففي مجتمع تتبدل فيه القيم
الأخلاقية بسرعة وتغيب فيه النخبة المبدعة،
يصبح أي حديث عن غد أفضل مجرد أمنية بلا أفق، أو دعوة للعزوف عن العمل
البناء، لأن
منطق
الهدم يهيمن على أدوات البناء.
ليس في الأمر مدح للماضي، وإنما إدراك أن في حاضرنا عوامل هدم تحكم، وإذا لم نواجهها ونعمل على إصلاحها، فلن يكون الغد أفضل أبدا. الأدوات التي يفترض أن تبني المجتمع تعطلت أو شُوهت بفعل ازدواجية المسؤولين، وسيطرة أصحاب المصالح الشخصية على ما يفترض أن يكون خدمة عامة
الأدوات والقيم
من دون معايير واضحة، ومؤسسات قوية، وأطر اجتماعية تحترم الكفاءة والنزاهة،
لا يمكن لأي جهد فردي أن يصنع فرقا، فالمجتمعات التي تُترك لأهواء المسؤولين المزدوجين
تشهد تراجعا مستمرا، لأن كل عمل بنّاء يُقابَل بمحاولات هدم، وكل قيمة أخلاقية تُستبدَل
بقوانين مرنة لمصلحة شخصية. الغد لن يكون أفضل إلا إذا أعدنا النظر في أدواتنا ومعاييرنا،
وإذا كانت الأدوات معطلة والقيم مهدرة، يصبح الغد استمرارا لسلسلة الهبوط والانحدار.
الازدواجية: مفتاح الانحدار
حين يتحدث المسؤول عن المصلحة العامة ويخالفها عمليا، حين يستشهد بالدين ويخالفه
في أفعاله، حين يلتزم بالمصلحة الوطنية بينما يسعى خلف مصالحه الشخصية، فإننا أمام
ازدواجية خطيرة، هذه الازدواجية لا تهدم البلد مباشرة، لكنها تضعف من قدرته على النمو
والتطور، لأنها تخلق فراغا قياديا، وفراغا أخلاقيا، وفراغا اجتماعيا؛ وكل فراغ يملؤه
من لا هم له إلا مصالحه الشخصية يجعل البناء شبه مستحيل، فالقادة الذين يلتزمون بقيمهم
ويعملون بإخلاص، هم الذين يمكن أن يجعلوا من اليوم أفضل من غد، وليس العكس.
القيم الاجتماعية والأخلاقية
لا يمكن النظر إلى أي مجتمع بمعزل عن قيمه الأخلاقية والاجتماعية، وعندما تتراجع
هذه القيم، تتحول المؤسسات إلى أدوات هدم، ويتحول العمل الجماعي إلى لعبة مصالح شخصية.
ومن هنا نفهم لماذا يشعر الناس بالاستياء من الحاضر، فالذاكرة الجمعية تمثل خط الدفاع
الأول أمام فوضى اليوم، لكن استعادة الماضي مجرد وهْم وطلب النجاة بما لا ينجي، ففي
ذاك الماضي كانت أدوات الهدم وتغير حاملوها من جيل آخر، ولا بناء حقيقيا، لأن الزمن
يتغير، ولا بد من معايير جديدة تتطلب أدوات جديدة، ومبدعين قادرين على تحويل الرؤية
إلى واقع.
ومحاولة كل مسيطر على الحكم أن يجرب أفكاره المستوردة
بسطحية مؤدلَج؛ وليس بعمق عالم فقد التوازن لصالح التخلي عن القيم لأمور تافهة وغاب
النظام الاجتماعي الذي يعبر عن إدارة العلاقات بين الأفراد، فمن التلاحم والتكاتف وثوابت
القيم إلى أن أصبحت العائلة بل الأسرة الواحدة مفككة وإن بدت مترابطة. ومن الطبيعي
أن يكون الأمس أفضل من اليوم واليوم أفضل من الغد فلا رؤية للبناء ولا معايير لاختار
القادة، والنتيجة أن يعظّم كل ما كسب، وهذا يعني تراكم الهدم وتعرية القيم، بل أصبحت
قيم كانت تعيب عشيرة إن فعلها الفرد؛ نوعا من الشطارة، أما الإخلاص فنوع من المثالية
والغباء في إدارة الحياة، والذي يقضم أكثر هو الأشطر، بينما هذا الأشطر لا يجد من ترضى
به زوجا قبل انحراف العقلية والنفسية، وهذا الخراب بعينه. لذا فسرّ المقولة اليوم أفضل
من غد هو تراكم الهدم بسبب غياب الرؤية والبيئة الحافظة للقيم والرافعة لرؤية البناء
المجتمعي بخلق التوازن الذي هو عنوان الرفاهية بالرضا، حيث تجد كل مستوى معاشي له برامجه
وحياته في معاني الرفاهية والحياة.
إن السعي وراء الرفاهية في مجتمع كهذا سراب يحسبه الظمآن
ماء، فالكل يركض للغنى والغنى في البناء، بينما الركض هذا في بيئة الفساد حيث الهدم
ولا بناء، فبغياب الرؤية تسود الرعاع والأهواء
الأمل والعمل
إذا أردنا أن يكون الغد أفضل، لا يكفي الانتظار ولا الأمنيات، بل لا بد من مواجهة
الواقع بكل صراحة. علينا استعادة أدوات البناء، وتمكين المبدعين والنخب، وإعادة تأسيس
القيم، ومحاسبة كل من يخالفها. العمل الفردي والمبادرات المجتمعية الصادقة يمكن أن
تصنع فرقا، ولكنها تحتاج إلى دعم مؤسساتي وقيادة تتسم بالنزاهة، وإلى مجتمع واعٍ يدرك
خطورة الازدواجية.
اليوم أسوأ من أمس من حيث عوامل الهدم، وأفضل من غد من حيث الإمكانات والفرص المتاحة لإصلاحها؛ الغد لن يكون أفضل إذا لم نعمل على مواجهة الهدم وإصلاح الأدوات والقيم، ما نفعله اليوم يحدد مصير الغد، والقيم والأدوات والنخبة والقيادة، هي مفاتيح المستقبل
ليس بالضرورة أن أقف حكَما أو أنتقد، ولكن من الضروري أن أصوب وأدعم من به أمل
أو بصيصه وأبقيه معي كيلا يكون ذلك الينبوع الغائب في نهر عكر. تشجيع النقاط المضيئة
وتصويبها ليس بالضرورة لتتقدم إلى عمل قد يهدمها من ضمن عملية الهدم، وإنما تصويبها
لديمومة البنائين لزمن البناء، وليس من نقطة مضيئة تفكر في مصلحتها الخاصة فقط فهذه؛
ستأخذ معرفتك وتجعلها إطارا لما تريد أن تضع فيه من كلام أو صورة، وهذا إخفاق في مهمة
المصلحين الذين غالبا انتفت إمكانية تأثيرهم من تمكن الفساد.
خلاصة
اليوم أسوأ من أمس من حيث عوامل الهدم، وأفضل من غد من حيث الإمكانات والفرص
المتاحة لإصلاحها؛ الغد لن يكون أفضل إذا لم نعمل على مواجهة الهدم وإصلاح الأدوات
والقيم، ما نفعله اليوم يحدد مصير الغد، والقيم والأدوات والنخبة والقيادة، هي مفاتيح
المستقبل، من يدرك هذه الحقيقة ويعمل وفقها، يمكن أن يكتب تاريخا أفضل، ومن يغفلها
سيظل يعيش في فوضى الحاضر بينما الغد سيزداد سوءا.
فماذا
نفهم؟ أن اليوم ليس أفضل من غد، وإنما عوامل الهدم ما زالت تنتج الهدم ليكون اليوم
أفضل وأننا نتكيف لمزيد من التقبل للتخلف والسوء متبرئين من الواقع بالانتقاد ولا عمل
من أجل الإصلاح، ونداري عجزنا بإبراز فشل الآخرين. من صنع اليوم هو عجزنا في الماضي
وتبرير العجز بالصبر، وكنا وما زلنا كأي شعوب الوهم تنتظر المنقذ، بينما المنقذ هو
أنت أو على الأقل حاول أن تحمل عقلية ونفسية المنقذ قبل ألا تستطيع حمل شيئا.