قضايا وآراء

من كييف إلى غزة: نظام دولي جديد

"لم يبق إلا التقاط الأنفاس من اللاعبين الدوليين العقلاء للحديث عن أمم متحدة بقواعد سياسية واقتصادية وأمنية جديدة قادرة على بلورة ثلاثية السلام والأمن والتنمية"- جيتي
تصدرت كلمات الرؤساء في الأمم المتحدة المشهد العالمي بالرغم من نرجسية بعضها وخواء بعضها الآخر، ولكن الثابت الوحيد هو أن العالم بحاجة إلى تعدد الأقطاب وخلق نظام دولي جديد يحمل معه حلولا للمعضلات الجديدة، وأخطرها غياب لغة التفاوض واستعمال المحرمات من قتل وتجويع وتهجير بلا رحمة للأطفال، واستعمال التكنولوجيا بكل أبعادها بطرق عليها ألف علامة استفهام.

وللمفارقة، أصبحت مخالفة القانون الدولي هي السمة الرئيسة في زمن انهيار النظم والقيم، وللأسف من يلتزم قواعد القانون الدولي هو الاستثناء!

تأتي الكلمات في الأمم المتحدة وغزة وأهلها المجوعون يذوقون الأمرّين والموت بكل أشكاله، تأتي الكلمات والمناورات الروسية البيلاروسية قائمة لتؤكد أن موسكو لم تعد في موقع الدفاع، بل انتقلت إلى مرحلة استعراض القدرة الهجومية وإرسال رسائل ردع مباشرة إلى الناتو. هذه المناورات، بما تحمله من تنسيق كامل مع بيلاروسيا وتشير إلى أن التحالف بين البلدين بات عمليا وميدانيا، وأن روسيا تسعى لإظهار استعدادها لخوض مواجهة واسعة مع حلف الناتو إذا ما استمر التصعيد. الرسالة الواضحة هي أن موسكو لا تقبل فرض معادلات جديدة عليها في حدودها الغربية، وأنها تملك القدرة على قلب موازين الردع في أوروبا.

الاعترافات المتلاحقة بدولة فلسطين أصبحت أكثر وأقوى فاعلية، والصحوة الدولية غدت عنوانا للمرحلة مع فداحة وكبر التضحيات الفلسطينية

في المقابل، تحذير الأمين العام للناتو مارك روته من أن الصواريخ الروسية قادرة على بلوغ أقصى غرب أوروبا في خمس دقائق ليس مجرد توصيف عسكري، بل هو ناقوس خطر سياسي يوجه للرأي العام الأوروبي. فالتهديد الروسي لم يعد يقتصر على شرق القارة أو أوكرانيا، بل وصل إلى قلب أوروبا الغربية، ما يطرح إشكالية حماية الذات لدى دول الناتو التي ظلت لعقود بعيدة عن خطر مباشر.

والأخطر أن خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي اعترف فيه بأن الناتو هو المسؤول عن إشعال أزمة أوكرانيا، يمثل تحولا عميقا في السردية الغربية. فهذه هي المرة الأولى التي يقر فيها زعيم أوروبي بارز بأن التحالف الأطلسي، وليس روسيا وحدها، كان وراء الانزلاق إلى الحرب. وهنا قد يُفهم هذا الاعتراف كخطوة لفتح قنوات تفاوضية مع موسكو، أو كتمهيد لتبرير فشل الاستراتيجية الغربية أمام الداخل الأوروبي. في جميع الحالات، يعكس الموقف شرخا داخل الناتو بين تيار شرقي متشدد بقيادة بولندا ودول البلطيق، وتيار براغماتي غربي يميل إلى التهدئة.

أما في الولايات المتحدة، فقد ربط دونالد ترامب في كلمته داخل أروقة المنظمة الدولية بين بقاء الحرب في غزة وإرضاء الاحتلال وشروطه، رغم كلامه المعسول عن الضفة وعدم احتلالها، ولكن لا ضمانات، فهو يبيعنا سمكا في بحر خاو إلا من وعود كاذبة منذ عامين؟!

وربط ترامب بين الحرب الأوكرانية والصراع الاقتصادي مع الصين، داعيا إلى فرض تعريفات جمركية تصل إلى 100 في المئة على الواردات الصينية. هذه الخطوة تكشف إدراكا أمريكيا متزايدا بأن بكين باتت لاعبا مركزيا في دعم موسكو، وأن إضعافها اقتصاديا جزء من معركة كبح روسيا. بذلك تتحول الأزمة من نزاع إقليمي إلى مواجهة شاملة تعيد تشكيل قواعد الاقتصاد والسياسة في النظام الدولي، علما أن التطورات الميدانية، مثل إعلان وزارة الدفاع الروسية تحرير بلدة نوفونيكولاييفكا في مقاطعة دنيبروبيتروفسك، تعزز من موقع موسكو وتضعف الموقف الأوكراني الذي بات يشهد اعترافات بفشل استخباراته في مواجهة عمليات الاستدراج الروسية. هذا التقدم الميداني، مع تآكل الدفاعات الجوية للناتو نتيجة تحويلها إلى أوكرانيا، يخلق واقعا جديدا على الأرض يفرض على الغرب إما الاستمرار في معركة استنزاف خاسرة أو البحث عن مخرج سياسي، ولكن كيف وبأي ثمن؟!

أما بولندا، بدورها، تبدو رأس الحربة في التصعيد ضد روسيا، مدفوعة بعاملين: عداء تاريخي وجغرافي مع موسكو، واعتمادها على المظلة الأمريكية- البريطانية التي تجعلها ساحة متقدمة للضغط على روسيا. غير أن خطابها المتشدد يصعب فصله عن استراتيجية أوسع يقودها الغرب، ما يجعلها أقرب إلى أداة في مواجهة كبرى منها إلى لاعب مستقل.

خلاصة المشهد أن الحرب في غزة هاشم وفي أوكرانيا لم تعد مجرد نزاع حدودي، بل تحولت إلى ساحة لإعادة صياغة النظام الدولي برمته وعلى قواعد جديدة بات ضرورة.

أوروبا اليوم أمام لحظة حاسمة: إما أن تستمر في الانصياع لمنطق الحرب المفتوحة، أو أن تنصت إلى الأصوات التي تعترف بأن مواجهة موسكو لن تُحسم عسكريا، وأن التفاوض بات ضرورة لا خيارا

ففي غزة الاعترافات المتلاحقة بدولة فلسطين أصبحت أكثر وأقوى فاعلية، والصحوة الدولية غدت عنوانا للمرحلة مع فداحة وكبر التضحيات الفلسطينية. وهنا لا بد من الإشادة بالدبلوماسية العربية إن على جبهة مصر- قطر في تعرية الاحتلال الذي لا يريد وقف الحرب، وإن على صعيد السعودية والأردن ومعهما الفرنسيون في معادلة حل الدولتين الذي يرفضه ترامب ونتنياهو، ولكن إلى متى يبقى هذا التعنت؟

أما على المقلب الآخر، فموسكو تعزز ثقتها وقدرتها العسكرية، فيما يزداد الانقسام الغربي بين التصعيد والبراغماتية. بالتوازي، يربط ترامب مستقبل أوكرانيا بمعركة الاقتصاد العالمي مع الصين، ما يوسع رقعة الصراع إلى مواجهة متعددة المستويات.

إن أوروبا اليوم أمام لحظة حاسمة: إما أن تستمر في الانصياع لمنطق الحرب المفتوحة، أو أن تنصت إلى الأصوات التي تعترف بأن مواجهة موسكو لن تُحسم عسكريا، وأن التفاوض بات ضرورة لا خيارا.

العالم يتراقص على حافة حرب هنا وأخرى هناك، والانزلاق وارد بفعل مجانين السياسة في كل العالم، وعليه لم يبق إلا التقاط الأنفاس من اللاعبين الدوليين العقلاء للحديث عن أمم متحدة بقواعد سياسية واقتصادية وأمنية جديدة قادرة على بلورة ثلاثية السلام والأمن والتنمية؛ من الشرق الأوسط إلى أعماق القارة العجوز.