حذر تقرير حديث للبنك الدولي، من تأثيرات اجتماعية
واقتصادية خطيرة على
مصر، نتيجة توجه السلطات الحالية نحو تقليل معدلات الإنجاب،
محذرا من إصابة البلد الذي يغلب على تكوينه فئة الشباب بشيخوخة مماثلة لدول أوروبا
الغربية، خلال 3 عقود.
في 18 أيلول/ سبتمبر الجاري، صدر التقرير بعنوان:
"تبني التغيير وتشكيله التنمية البشرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"،
مشيرا إلى أن أكبر بلد عربي سكانا (108 ملايين نسمة)، تواجه تحولا ديموغرافيا يحمل
معه تحديات مستقبلية، مع انخفاض معدلات الخصوبة، وارتفاع متوسط عمرالسكان، وتضاعف
نسبة إعالة كبار السن.
توقع التقرير، أن تتضاعف نسبة إعالة كبار السن (65
عاما وأكثر) إلى الذين تتراوح أعمارهم بين (15 و64 عاما) بحلول عام 2050 "،
مع "زيادة في متوسط أعمار المصريين في غضون 30 عاما فقط، بعد أن ظلت النسبة
في مصر دون تغيير جوهري في الـ50 عاما بين (1970 و2020).
وأكد أن الدول التي على شاكلة مصر ستواجه ضغوطا
متسارعة على: "القدرات الاستيعابية، والأموال المخصصة لأنظمة المعاشات
والرعاية الصحية"، مبينا أن "الفئات السكانية الأكبر سنا تتطلب قوة
عاملة أكبر تعمل في مجال الرعاية الصحية".
وأوضح أن هذا الموقف "يتفاقم بسبب انخفاض
معدلات المواليد؛ الذي يمثل تناسب معدلاته ضرورة لتقليص الفجوة في القوة العاملة
بما يتناسب مع نسبة كبار السن من السكان".
السيسي وتقلبات العقد الأخير
ومنتصف القرن العشرين بلغ عدد سكان مصر حوالي 22
مليون نسمة، في رقم تضاعف عام 1984، مسجلا 48 مليون نسمة، ليتخطى شعب مصر
حاجز 66 مليون نسمة مطلع الألفية الجديدة عام 2000، ليتعدى بعد 20 عاما حاجز 100
مليون نسمة، عام 2020، لتسجل "الساعة السكانية" في القاهرة عصر
الأربعاء، (108.161.385 مليون نسمة).
كذلك شهدت معدلات الإنجاب تراجعا كبيرا منذ منتصف
القرن العشرين، لتشهد تقلبات كبيرة بالعقد الأخير، حيث سجل معدل الإنجاب الكلي 6.7
طفل لكل امرأة عام 1952، لينخفض بثمانينيات القرن الماضي إلى 5 أطفال، ومنه إلى
3.1 عام 2000، ليرتفع عام 2014 إلى 3.5 طفل، لتبدأ موجة هبوط سجلت (2.76) عام
2022، ثم (2.54) عام 2023، ثم إلى 2.41 طفل لكل امرأة، في 2024.
وفي مناسبات عديدة حمَّل رئيس النظام الحالي
عبدالفتاح السيسي، الزيادة السكانية سبب تآكل جهود التنمية، داعيا المصريين إلى
تحديد النسل وتقليص معدلات الإنجاب، فيما أدت الأوضاع
الاقتصادية والاجتماعية
الصعبة إلى تراجع معدلات الزواج، وتأخير سن الزواج، وزيادة نسب الطلاق، ما قاد إلى
تراجع عدد المواليد وتراجع نسب الخصوبة.
وفقا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، انخفض عدد
عقود الزواج إلى800 ألف عقد عام 2023، متراجعا من حوالي 870 ألف عقد
عام 2015.
في المقابل، يرى مراقبون أن مصر تمتلك ثروة بشرية،
وحجم قوة عاملة هائلة، تحتاج إلى توجيه نحو التعليم والتدريب وتوفير فرص العمل، مؤكدين
أن أي خلل بمعدلات الإنجاب والخصوبة تقود المجتمع المصري المتميز بزيادة نسب الشاب
فيه إلى مجتمع يعاني الشيخوخة بما لها من تأثير سلبي على قطاعات العمل والإنتاج.
خبيران تحدثا إلى "
عربي21"، راصدين
"مخاطر تراجع معدلات الخصوبة والإنجاب والمواليد والزواج في مصر، ومخاطر
فقدان المجتمع المصري تميزه بزيادة أعداد شبابه والتحول إلى شيخوخة مماثلة لما
تعيشه أوروبا، والحلول في المقابل".
عبء وفرصة
وفي رؤيته، قال الخبير في الإدارة بمجال الصحة
الدكتور هاني سليمان: "34 بالمئة من عدد السكان (108 ملايين نسمة) تحت 15 سنة،
بينما 28 بالمئة منهم بين (15– 29)، وحوالي 30 بالمئة بين (30– 44)، والفئات
الثلاثة يمثلون 92 بالمئة من المصريين، ويمكن أن نسميهم شبابا، بينما 8 بالمئة فقط
يمثلون (كبار السن)".
مدير التسويق والتخطيط الاستراتيجي السابق بشركة
"فايزر الشرق الأوسط"، أوضح لـ"عربي21"، لفت إلى أن
"القطاعات الثلاثة الشابة، تمثل المصريين بمراحل التعليم والعمل الفعال، ما
يعكس شكل المجتمع الديناميكي، الذي ينمو بسرعة، ويدخل مجال الدراسة والعمل بسرعة
وبقوة".
يعتقد سليمان، أن "التشكيل الحالي للمجتمع يمثل
عبئا؛ ويمثل فرصة، فأكثر من ثلث السكان (أطفال) بالتعليم الأساسي، ما يشكل عبئا
على الدولة، لكنهم يمثلون القوة المستقبلية التي ستقود 30 عاما مقبلة".
ويرى أن "المرحلة بين (15– 29) تمثل النهوض
الفعلي لأي مجتمع، وهي لشباب طلبة الجامعات، والشباب الذي بدأ العمل؛ لتأتي
المرحلة الثالثة (30– 44)، لتمثل قوة العمل الحقيقية والفعالة بالمجتمع".
ليست وردية
ومضى يؤكد أنه "إذا من المفترض أن ينتظر مصر
مستقبل واعد، لكن الصورة ليست وردية كما تبدو، ففي ظل تباطئ اقتصادي، وتخلف
التعليم، وعدم اهتمام بالتشغيل والتوظيف وخلق فرص عمل، يتضح أن كثيرا من الطبقات
الاجتماعية تمثل عبأ على الدولة، كونها غير قادرة على بناء مجتمع يتمتع بالرخاء مع
اقتصاد متباطئ وسوق عمل متراجع".
ويرى أن "ما يزيد عمق المشكلة، الانخفاض
الدراماتيكي بمعدلات الخصوبة، وارتفاع متوسط العمر، وبالتالي تضاعف نسبة إعالة
كبار السن، كما يقول تقرير
البنك الدولي، أي أنه خلال 30 عاما ستتغير التركيبة
الاجتماعية، ويزيد عدد من هم في سن الإعالة، ما يضيف أعباء أكثر وأخطر على دولة
نامية".
وبين أنه "رغم أن الدولة سعيدة بانخفاض معدل
الخصوبة ونمو السكان، وترى زيادة السكان عقبة رئيسة بمواجهة النمو الاقتصادي،
لكنها ستواجه مشكلة إضافة أجيال من كبار السن، يعيشون أطول وينتجون أقل، ويطلبون
مزيد خدمات اقتصادية واجتماعية من دولة منهكة".
الحل في رأيي الخبير المصري يتمثل في "تحقيق
تقدم اقتصادي سريع، وزيادة الإنتاج، وخلق فرص عمل لتحقيق الرخاء الاجتماعي، خاصة
مع انخفاض معدل الزيادة السكانية المرتقب، أي أن أعباء الدولة الاقتصادية
والاجتماعية ستنخفض، ما يتيح لها تحقيق التقدم والرخاء".
4 مخاطر
وفي قراءته، قال الخبير في التحليل لمعلومات وقياس
الرأي العام الباحث مصطفى خضري، لـ"عربي21": "يمثل تراجع معدلات
الخصوبة والإنجاب والزواج في مصر تحولا اجتماعيا واقتصاديا يحمل 4 مخاطر مترابطة".
وذكر أن أولها: "تقلص القوة العاملة
المستقبلية"، مبينا أن "انخفاض معدل الإنجاب من 3.5 طفل لكل سيدة عام
2014 إلى 2.41 عام 2024، يعني أن عدد الذين سيدخلون سوق العمل بعد عقدين سيكون
أقل، ما يهدد بتناقص القوة العاملة".
وأشار ثانيا إلى "زيادة عبء الإعالة الديموغرافي"،
موضحا أن "عدد كبار السن 5.9 بالمئة ببداية 2025، ويتوقع البنك الدولي تضاعف
نسبة اعالتهم عام 2050، وحاليا، يبلغ معدل الإعالة الإجمالي (نسبة الأطفال وكبار
السن إلى السكان في سن العمل) حوالي 59 بالمئة، ما يعني أن كل 100 شخص في سن العمل
يعولون 59 آخرين، ومع زيادة نسبة كبار السن وتقلص نسبة الشباب، سيرتفع هذا العبء".
حدوث أزمة بأنظمة التقاعد، ثالث المخاطر وفق خضري،
مبينا أن "أنظمة المعاشات تعتمد على اشتراكات العاملين، وحاليا، يبلغ عدد
المشتغلين من كبار السن (60 عاما فأكثر) حوالي 1.3 مليون شخص، بنسبة 14.6 بالمئة
من إجمالي المسنين، ومع تزايد أعداد المتقاعدين مستقبلا وانخفاض أعداد دافعي
الاشتراكات الجدد، ستواجه صناديق المعاشات ضغوطا تمويلية".
ولفت رابعا، إلى "ضغوط متزايدة على قطاع
الرعاية الصحية"، مبينا أن "المسنين حاليا حوالي 44.9 بالمئة من إجمالي
الوفيات، مما يعكس احتياجاتهم الصحية المتزايدة، ومع ارتفاع متوسط العمر المتوقع،
الذي وصل عام 2025 إلى 69.4 سنة للذكور و74.4 سنة للإناث، سيزداد الطلب على خدمات
الرعاية الصحية، ما يتطلب قوة عاملة أكبر بهذا القطاع".
ماذا يعني فقدان الميزة الشبابية؟
قال رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي
العام " تكامل مصر": "لطالما تمتعت مصر بميزة (الهبة الديموغرافية)
بفضل هيكلها السكاني الشاب؛ إلا أن التحول نحو مجتمع أكثر شيخوخة، على غرار
أوروبا، يهدد هذه الميزة وينطوي على مخاطر استراتيجية مدعومة بالأرقام".
وتحدث عن "فقدان الديناميكية والابتكار، حيث
أنه وفقا لبيانات 2024، تبلغ نسبة الشباب بالفئة العمرية (18-29 سنة) حوالي 21
بالمئة، وهي محرك الابتكار وريادة الأعمال، ومع ذلك، يعاني الشباب من معدلات بطالة
مرتفعة بلغت 14.9 بالمئة بالفئة العمرية (15-29 سنة) لعام 2024، وتصل 37.1 بالمئة
بين الإناث، وعدم استغلال هذه الطاقة وتراجع أعداد المواليد، يعني فقدان مصر هذه
الميزة".
وأشار إلى "تحديات اقتصادية هيكلية (مقارنة
بأوروبا)، موضحا أنه عام 1955، كان عدد سكان إيطاليا وألمانيا ضعف و3 أضعاف سكان
مصر على التوالي، واليوم، تجاوز عدد سكانها كل منهما على حدة، والبنك الدولي يحذر
مصر من شيخوخة بوتيرة أسرع من الدول الأوروبية، وبموارد اقتصادية أقل للاستعداد".
وألمح إلى "التحول في الهيكل السكاني"،
حيث "حاليا لا تزال مصر دولة (فتية)، وتبلغ نسبة من هم أقل من 15 عاما حوالي
31.2 بالمئة، ونسبة كبار السن (65+) حوالي 5.9 بالمئة فقط عام 2025، هذا الهيكل
يوفر فرصة اقتصادية، لكن مع انخفاض معدل المواليد السنوي إلى أقل من 2 مليون لأول
مرة منذ 17 عاما في 2024، فإن قاعدة الهرم السكاني بدأت تضيق".
ولفت إلى "تراجع القدرة التنافسية العالمية، إذ
يرى خبراء أن معدل تراجع الخصوبة في مصر خلال الـ15 عاما الماضية كان من بين
الأعلى عالميا، إذا لم يتم تحويل الكتلة الشبابية الحالية إلى قوة عاملة منتجة
ومبتكرة من خلال الاستثمار في التعليم والتدريب، فإن مصر ستواجه فجوة مزدوجة في
المستقبل: نقص في العمالة الشابة، وقوة عاملة حالية غير مجهزة بالمهارات اللازمة
للمنافسة عالميا".
وخلص إلى أن "الإحصائيات تشير إلى أن مصر تقف
عند منعطف ديموغرافي حاسم، فبينما لا تزال تتمتع بميزة سكانية شابة، فإن المؤشرات
طويلة الأجل تنذر بتحديات الشيخوخة التي تواجهها الدول المتقدمة، مما يستدعي
سياسات استباقية للاستثمار في رأس المال البشري وتكييف الأنظمة الاقتصادية
والاجتماعية مع هذا الواقع الجديد".