وجّه العاهل
المغربي الملك محمد السادس،
رسالة إلى المجلس العلمي الأعلى، دعا فيها إلى إحياء الذكرى الخامسة عشرة لقرون
ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، عبر برامج علمية وروحية واسعة. لكن الرسالة لم
تقتصر على التذكير بمكانة المناسبة، بل قدّمت رؤية متكاملة توظّف الذاكرة النبوية
في ترسيخ الهوية
الدينية المغربية، وإبراز دور المملكة كفاعل روحي في محيطها
الإقليمي والدولي.
فالرسالة الملكية أبرزت أن الاحتفاء بالمولد
النبوي ينبغي أن يتحول إلى فرصة لتجديد العهد مع الأمانات الثلاث التي بعث بها
النبي: القرآن، والتزكية، والحكمة، مع ربطها بواقع الأجيال المعاصرة، ولا سيما
الشباب. كما شدّدت على دور المغرب التاريخي في صيانة هذه الأمانات من خلال حفظ
القرآن، ورعاية التصوف، وإحياء تقاليد المديح النبوي، وهو ما يمنح
السياسة الدينية
المغربية عمقًا متجذرًا في التاريخ والذاكرة الجماعية.
وعلى المستوى المقارن، فإن التجربة المغربية
تتميز عن نماذج أخرى في العالم الإسلامي. ففي حين تستند السعودية إلى مركزية
الحرمين ورابطة العالم الإسلامي، وتعتمد تركيا على مؤسسات مثل "ديانت"
في امتدادها العثماني الحديث، وتطرح إيران نموذج "ولاية الفقيه" كإطار
لقيادة دينية ذات بعد سياسي عقائدي، يقدّم المغرب صيغة تقوم على إمارة المؤمنين
التي تجمع بين الشرعية الدينية ـ النَسَبية والمرجعية المذهبية المالكية ذات الطابع
الوسطي، بما يمنحه موقعًا متميزًا في خريطة المرجعيات الدينية.
هذا التمايز يجعل من المغرب فاعلًا يسعى إلى
تقديم نفسه كبديل أو مكمّل للمرجعيات الأخرى، خصوصًا في القارة الإفريقية حيث
يمتلك رصيدًا تاريخيًا وروابط روحية ممتدة. ومن هنا، فإن إحياء ذكرى ميلاد الرسول،
وفق الرؤية الملكية، ليس مجرد حدث ديني بل أيضًا آلية لتعزيز القوة الناعمة وترسيخ
صورة المغرب كقطب روحي قادر على التوفيق بين الأصالة الدينية ومتطلبات العصر، في
عالم إسلامي يشهد تنافسًا متصاعدًا على الشرعية الرمزية والروحية.
وعلى الصعيد الداخلي، يكشف هذا التوجه عن
إدراك عميق لارتباط الدين بالاستقرار السياسي. فترسيخ مرجعية إمارة المؤمنين يوفّر
إطارًا جامعًا يحدّ من التشرذم المذهبي والفكري، ويمنح النظام السياسي رصيدًا
إضافيًا من الشرعية المستمدة من المرجعية الدينية. وبهذا، تتحول المناسبات الروحية
الكبرى إلى أدوات مزدوجة: تعزيز السلم الاجتماعي داخليًا، وبناء النفوذ الرمزي
خارجيًا، وهو ما يمنح السياسة الدينية المغربية خصوصيتها في محيط إقليمي مضطرب.