مقالات مختارة

الخوف من البطالة يتجاوز مخاوف التضخم

الأناضول
على ما جرت عليه عادة الأسواق المالية في السنوات الأخيرة، ازدادت ردود أفعالها مع ما يصدر عن المؤتمر السنوي للبنك الفيدرالي الأميركي، الذي يُعقد في النصف الثاني من شهر أغسطس (آب) سنوياً، في منتجع جاكسون هول بولاية وايومينغ الأميركية. ويشارك في هذا الملتقى قادة البنوك المركزية الرئيسية حول العالم، ونخبة من الاقتصاديين والإعلاميين المتخصصين، ليلتقوا في شكل ندوات ينظمها البنك الفيدرالي لكانساس سيتي، حول السياسات الاقتصادية ومتغيراتها. وفي هذا العام تركز النقاش حول سوق العمل في المرحلة الانتقالية والأبعاد المتعلقة بالسكان، والإنتاجية والسياسات الاقتصادية الكلية.

وما تترقبه الأسواق هو ما قد يشير إليه رئيس البنك الفيدرالي، جيروم باول، تصريحاً أو تلميحاً، عن توجهات السياسة النقدية بين تقييد وتيسير أو بين رفع وخفض لأسعار الفائدة. وفي مقال طريف في صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية تقمَّص فيه كاتب المقال دور رئيس البنك الفيدرالي في كلمة توجَّه بها إلى جموع الحاضرين، فذكر فيه ما يفيد بأنه سيتحدث إليهم في موضوعين لا ثالث لهما:

الأول هو خفض سعر الفائدة؛ والآخر هو «تخفيض الهراء» بالحديث المباشر الواضح المفهوم الذي لا يتوارى خلف مصطلحات غامضة أو شفرات، يعاني في تفسيرها الشرّاح والمفسرون. ولم يُخيِّب جيروم باول هذه المرة رجاء متابعيه. فتحدث عن مخاطر تواجه التضخم فترفعه لمعدلات أعلى من المستهدف المعلن وهو 2 في المائة سنوياً، كما تحدث عن أخطار تحيق بمعدلات تشغيل العمالة فتخفضها. وعزا باول مخاطر التضخم إلى زيادة متوقعة بسبب زيادة التعريفة الجمركية من إدارة الرئيس دونالد ترمب، ولكن فُهم من حديثه أن هذه الزيادة ستكون لمرة واحدة. أما سوق العمل فتتعرض لمشكلات معقَّدة بسبب تقييد الهجرة بما سيخفض المعروض من العمالة بفئاتها المختلفة. وقد عانت بيانات سوق العمل من إشاراتها الملتبسة بين احتمالات لزيادة البطالة، ومؤشرات على زيادة الأجور في الوقت ذاته.

وبين التخوف من زيادة التضخم والخوف من انخفاض التشغيل، يبدو أن رئيس البنك الفيدرالي قد جنح إلى التصدي لانخفاض التشغيل الذي يُنذر بمزيد من انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وربما الركود، إذا ما استمرت معدلات النمو تلك في الانخفاض. كأن رئيس البنك الفيدرالي أعطى الأسواق ما تريده وطال اشتياقها إليه من خفض لأسعار الفائدة على مدار ثمانية أشهر من الانتظار. ومن المعلوم أن قرار خفض أسعار الفائدة، القائمة اليوم بين 4.25 و4.5 في المائة، بمقدار 25 نقطة أساس، أو ربع نقطة مئوية، الذي ارتفعت احتمالات اتخاذه في الاجتماع القادم للبنك الفيدرالي الأميركي إلى أكثر من 75 في المائة، سينتظر حسمه -وفقاً لتقريرين دوريين سيصدران قبل الاجتماع المرتقب- التقرير الأول عن التضخم، والآخر عن التشغيل في سوق العمل؛ فإذا ما أتى تقرير التضخم بما هو أسوأ مما سيأتي به تقرير التشغيل فلن يتم الخفض الذي تريده الأسواق.

ومن غير المألوف في هذا الحشد التكنوقراطي المحافظ، الذي دأب على الاجتماع سنوياً منذ أربعة عقود في جاكسون هول، أن يُستقبَل رئيس البنك الفيدرالي بتصفيق حاد قبل كلمته التي استغرقت عشرين دقيقة. ولا تدري ما الذي دار في خلد المصفقين: هل لأنها الكلمة الثامنة والأخيرة التي سيوجهها باول إلى هذا التجمع؟ هل لأنها على سبيل التضامن مع صمود البنك الفيدرالي أمام محاولات نيل البيت الأبيض من استقلاله بين توبيخ لرئيسه، وتهديد بعزله، ثم إعلان النية إقالة واحدة من أعضائه بدعوى عدم سلامة مستندات تقدمت بها للرهن العقاري؟ هل هي تقدير من البعض لمجمل أعماله، رغم ما طالها من نقد شديد، لعدم التصدي المبكر للتضخم بعد جائحة كورونا؟ أم هي مجاراة من البعض لمشاعر باقي الموجودين في القاعة؟

أسابيع تفصل الأسواق عن القرار الفعلي في سبتمبر (أيلول) المقبل، وإن حيَّت القرار انفعالاً بتوجهه قبل صدوره بزيادات في مؤشراته يوم الجمعة الماضي. وفي هذه الأثناء برز أمر وغاب آخر عن حوار جاكسون هول. فالأمر البارز هو ما صدر عن مسؤولي السلطات النقدية في اليابان وأوروبا، فضلاً عن بنك إنجلترا المركزي، الذين تناولوا تحديات شيخوخة أسواق العمل التي تهدد عرض العمالة، وتراجع الإنتاجية، وانخفاض المدخرات. وما يعقِّد أوضاع سوق العمل تقييد حركة الهجرة بسبب إجراءات ذات دوافع شعبوية لا تخلو من عنصرية. هذا على الرغم من أن العمالة المهاجرة في أوروبا التي لا تتجاوز 10 في المائة، مسؤولة عن نصف نمو القوة العاملة، وفقا لمداخلة كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي.

أما الأمر الذي لم يبرز في حوار جاكسون هول فهو تأثير تخفيض أسعار الفائدة على البلدان النامية. وفي مقالات نشرتُها في هذه الصحيفة الغراء، تزامنت مع تخفيضات سابقة، في عام 2019، لأسعار الفائدة العالمية وأثرها على البلدان النامية، دعوت فيها إلى «تفعيل سياسات متكاملة للادخار والاستثمار والإنتاج والتشغيل وإلا تحول انخفاض أسعار الفائدة إلى نقمة لا تقل شراً عن ارتفاعها».

ولا ننسى أن حمى الاقتراض وزيادة ديون القطاعات الحكومية والخاصة والعائلية قد اشتدت مع انخفاض أسعار الفائدة العالمية، من دون تحسُّب لتقلبات سعر الصرف وتراجعات السيولة المفاجئة من النقد الأجنبي؛ فضلاً عن تدفقات الأموال الساخنة مدفوعةً بالمبالغة في رفع أسعار الفائدة المحلية إغراءً لها، مع ثبات مفتعل في سعر الصرف. لعل القائمين على السلطات النقدية يسترجعون دروس أسباب أزمة المديونية الراهنة تحوطاً من أزمة أخرى.

الشرق الأوسط