نشرت صحيفة "
الغارديان" البريطانية، تقريرا، أعده لورينزو تودو، وأرفقه بصور التقطها أليسيو مامو من على متن طائرة عسكرية أردنية، كانت تحلق فوق
غزة. جاء فيه: "غزة تبدو من الجو كأطلال حضارة عريقة، عادت للنور بعد قرون من الظلام، خليط من الكتل الخرسانية والجدران المحطمة، أحياء تتناثر فيها الحفر والأنقاض، وطرق لا تقود إلى أي اتجاه، بقايا مدن أبيدت".
وبحسب
التقرير الذي ترجمته "عربي21" فإنّه: "قبل أقل من عامين، كانت غزة مكانا نابضا بالحياة، على الرغم من كل التحديات التي واجهها سكانها حتى ذلك الحين. كانت أسواقها مكتظة وشوارعها مليئة بالأطفال. لقد ولّت غزة تلك، فهي لم تدفن تحت رماد بركان انفجر ولم تمح بسبب مرور الزمن، بل دمرتهات حملة عسكرية إسرائيلية خلفت وراءها مكانا يبدو وكأنه آثار نهاية العالم".
وحصلت صحيفة "الغارديان"، الثلاثاء الماضي، على إذن للسفر على متن طائرة عسكرية أردنية لتقديم المساعدات. وبعدما أعلنت دولة
الاحتلال الإسرائيلي، الأسبوع الماضي، أنها استأنفت عمليات الإنزال الجوي الإنساني المنسق فوق غزة، في أعقاب تزايد الضغوط الدولية بسبب النقص الحاد في الغذاء والإمدادات الطبية، والذي وصل إلى حد الأزمة لدرجة أنّ المجاعة تتكشف الآن هناك.
وأورد التقرير: "لم توفر الرحلة فقط فرصة لمشاهدة ثلاثة أطنان من المساعدات، وهي بعيدة كل البعد عن الكفاية، يتم إسقاطها فوق القطاع المنكوب بالمجاعة، بل أتاحت أيضا فرصة نادرة لمراقبة، ولو من الجو، منطقة معزولة إلى حد كبير عن وسائل الإعلام الدولية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر والهجوم الذي شنته إسرائيل".
وأوضح: "منعت إسرائيل الصحافيين الأجانب من دخول غزة، وهي خطوة غير مسبوقة في تاريخ الصراع الحديث، ما يمثّل إحدى اللحظات النادرة التي يحرم فيها الصحافيون من الوصول لمنطقة حرب نشطة. حتّى من ارتفاع حوالي 2,000 قدم (600 مترا)، كان من الممكن رؤية أماكن تمثّل بعضا من أكثر فصول الصراع تدميرا، مشهد يحمل ندوب الهجمات الأكثر دموية".
وتابعت: "هذه هي مواقع القصف والحصار التي وثّقها الصحافيون الفلسطينيون بشجاعة، غالبا على حساب حياتهم. ودفن أكثر من 230 صحافيا فلسطينيا تحت الأنقاض في مقابر حفرت على عجل".
"بعد حوالي ساعة ونصف من الإقلاع، حلّقت الطائرة فوق أنقاض شمال غزة ومدينة غزة، التي أصبحت الآن أرضا قاحلة من الخرسانة المنهارة والغبار، تحوّلت المباني لأنقاض، والطرق باتت مليئة بالحفر وسويت أحياء بالأرض. من هذه المسافة، يكاد يكون من المستحيل رؤية سكان غزة. فقط عبر عدسة كاميرا تبلغ مساحتها حوالي 400 مم، يمكن تمييز مجموعة صغيرة من الناس يقفون بين أنقاض مشهد مدمر، العلامة الوحيدة للحياة في مكان يبدو غير صالح للسكن" وفقا للتقرير نفسه.
ومضى بالقول: "مع اقتراب الطائرة من مخيم النصيرات للاجئين، يفتح بابها الخلفي وتنزلق منها منصات المساعدات، وتنتشر المظلات خلفها وهي تسقط نحو الأرض. وبحسب بيان صادر عن الجيش الأردني: مع عمليات الإنزال الجوي اليوم، نفذت القوات المسلحة الأردنية- الجيش العربي 140 عملية إنزالا جويا، بالإضافة إلى 293 عملية بالتعاون مع دول أخرى، حيث سلمت 325 طنا من المساعدات إلى غزة منذ استئناف عمليات الإنزال الجوي في 27 تموز/ يوليو".
وأضاف: "مع ذلك، فإن الكميات هذه لا تكفي، فيما تحذر وكالات الإغاثة الإنسانية من انتشار الجوع بسرعة في أنحاء القطاع. وبينما قد توحي عمليات الإنزال الجوي بفكرة وجود جهد ما، إلا أنها، بالإجماع، مكلّفة وغير فعالة، ولا تساوي كمية المساعدات التي يمكن توصيلها بالشاحنات"، مشيرا إلى أنّه: "في أول 21 شهرا من الحرب، وفّرت عمليات الإنزال الجوي ما يعادل أربعة أيام فقط من الغذاء لغزة، وفقا للبيانات الإسرائيلية".
وتابع: "يمكن أيضا أن تكون مميتة، فقد غرق ما لا يقل عن 12 شخصا العام الماضي أثناء محاولتهم استعادة الطعام الذي سقط في البحر، وقتل ما لا يقل عن خمسة أشخاص عندما سقطت عليهم منصات نقالة. وإلى الجنوب، تحلق الطائرة فوق دير البلح، وسط غزة. هناك، في منطقة البركة".
وأردف: "في 22 أيار/ مايو، قتلت الطفلة يقين حماد، البالغة من العمر 11 عاما، والمعروفة بأصغر مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي في غزة، بعد سلسلة من الغارات الجوية الإسرائيلية العنيفة التي أصابت منزلها بينما كانت تسقي الزهور في رقعة صغيرة من الخضرة التي زرعتها بصعوبة في مخيم للنازحين".
وأبرز: "على بعد بضعة كيلومترات، تحلق الطائرة بالقرب من خان يونس، المحاصرة منذ أشهر من قبل القوات الإسرائيلية وسط قتال عنيف في مستشفياتها وما حولها. في مكان ما في الضواحي الشمالية توجد بقايا منزل الدكتورة آلاء النجار، طبيبة الأطفال الفلسطينية التي عملت في مستشفى التحرير، وهو جزء من مجمع ناصر الطبي. تعرض منزلها للقصف في أيار/ مايو أثناء عملها في المستشفى وقتل زوجها وتسعة من أطفالها العشرة في الهجوم".
وتابع: "من المدهش أن تبدو غزة من السماء صغيرة، قطعة من الأرض أصبحت مسرحا لأحد أكثر الصراعات دموية في العالم. المنطقة أصغر بأكثر من أربع مرات من لندن الكبرى. في هذه الزاوية الصغيرة من الشرق الأوسط، قتل أكثر من 60,000 شخصا في الغارات الإسرائيلية، وفقا للسلطات الصحية. وتشير التقديرات إلى أن الآلاف ما زالوا مدفونين تحت الأنقاض".
وأضاف: "على بعد مئات الأمتار تحتنا، تعمل مراسلة صحيفة "الغارديان"، ملك الطنطش، وهي صحافية وناجية، على إحدى تقاريرها الإخبارية. لم يلتق معظم زملائها المراسلين والمحررين وغيرهم من زملائها الطنطش بعد، بسبب الحصار الإسرائيلي الذي يجعل مغادرة سكان غزة مستحيلة. نزحت عدّة مرات، وتعيش دون مصدر موثوق للغذاء أو الماء وفقدت أقاربها وأصدقاءها ومنزلها في الحرب: إنه شعور غريب ومؤرق أن أتلقى رسالة منها بينما تحلق الطائرة الأردنية في السماء".
وأبرز: "بينما تعود طائرتنا إلى الأردن، يشير جندي على متنها نحو الأفق الضبابي إلى الجنوب: هذه
رفح هناك، كما يقول. أقصى جنوب غزة، منطقة مدمّرة إلى حد كبير الآن، حيث لقي المئات حتفهم في التدافع على الطعام منذ أن تولّت مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة تسليم الأغذية في أيار/ مايو".
وختم بالقول: "على بعد كيلومترات قليلة شرقا، وسط تلالٍ مليئة بالحفر، يقع الموقع الذي قصفت فيه وحدة عسكرية إسرائيلية، في 23 آذار/ مارس، قافلة من سيارات الإسعاف الفلسطينية، ما أسفر عن مقتل 15 مسعفا وعامل إنقاذ، دفنوا لاحقا في مقبرة جماعية".
واستطرد: "بعد هبوط الطائرة في قاعدة الملك عبد الله الثاني الجوية في الغباوي، يبدو أن السؤال نفسه يتردد في أذهان القلّة من الصحافيين الذين صعدوا على متن الطائرة: متى سنرى غزة مجددا؟ وبعد رؤية هذه الصحراء من الحجارة المحطمة والقبور، ما الذي يمكن تدميره أكثر بعد كل هذا الدمار؟".