في أحد الأزقة المنسية بحي الشيخ رضوان شمال مدينة
غزة، ترقد الطفلة مسك بلال المدهون (6 أعوام) بلا حراك. جسدها الهزيل لا يكاد يُرى من تحت غطاء رقيق، عظامها بارزة، ونظراتها ساكنة، تتابع ما حولها بصمت موجع. لا تستطيع النطق ولا الجلوس، وقد أصبحت شاهدا حيا على جريمة تجويع ممنهجة تُرتكب بحق
أطفال غزة في وضح النهار.
تعاني مسك من ضمور دماغي منذ الولادة، وكانت حالتها مستقرة نسبيا قبل الحرب، وفق ما تؤكده جدتها، السيدة أم بلال المدهون. لكن مع اشتداد
الحصار الإسرائيلي ومنع دخول الغذاء والدواء منذ أشهر، انقلبت حياتها إلى مأساة يومية. تقول الجدة بحرقة لـ"للأناضول": "كانت تضحك وتلعب مثل بقية الأطفال، واليوم أصبحت شريطا من الألم.. لا تتحرك ولا تستجيب، فقط تنظر إلينا ونحن عاجزون عن مساعدتها".
وزنها أربعة كيلوغرامات فقط
في سنّ يفترض أن تكون فيه الطفلة نشطة، يزن جسد مسك أربعة كيلوغرامات فقط. فقدت قدرتها على تناول الغذاء العادي، وتحتاج إلى حمية خاصة ومكملات غذائية غير متوفرة.
ومع تصاعد الأزمة الإنسانية والإبادة الجماعية في غزة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فُرضت عليها عزلة قسرية داخل قطاع محاصر، لا يُسمح فيه بدخول الدواء أو الغذاء إلا نادراً، ووفق معايير انتقائية صارمة تفرضها سلطات الاحتلال.
وتتابع الجدة بألم: "منذ إغلاق المعابر لا تصلنا مساعدات. نحاول أن نطعمها ما يتوفر، لكن حتى هذا لم يعد كافيا. إنها تذبل أمام أعيننا، وكل يوم يمر هو موت بطيء جديد".
أرقام المجاعة تتصاعد
بحسب وزارة الصحة في غزة، ارتفعت حصيلة وفيات التجويع في القطاع، حتى الاثنين، إلى 180 حالة، بينها 93 طفلاً، جراء الإصابة بسوء التغذية وغياب الرعاية الطبية.
ويُقدر أن أكثر من 100 ألف طفل وامرأة يعانون من سوء التغذية الحاد في القطاع، وسط تحذيرات أممية من انفجار كارثي وشيك.
ووصف المسؤول الأممي روس سميث الوضع الإنساني، أن "ثلث سكان غزة لم يأكلوا منذ أيام"، مؤكداً أن الجوع بلغ مستوى غير مسبوق من اليأس.
ورغم ادعاءات الاحتلال الإسرائيلي السماح بإدخال شاحنات مساعدات منذ 27 تموز/يوليو الماضي، فإن الواقع على الأرض يشير إلى ما هو عكس ذلك. فوفق المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، تحتاج غزة إلى ما لا يقل عن 600 شاحنة مساعدات يومياً لإنقاذ حياة المدنيين، بينما لا يصلها سوى القليل، في ظل انتشار عمليات نهب للمساعدات برعاية جيش الاحتلال، وفق البيان.
مجزرة صامتة ضد الأطفال
الطفلة مسك ليست سوى وجه من وجوه المجزرة الصامتة التي تُرتكب بحق أطفال غزة. 40 ألف رضيع على الأقل مهددون بالموت الفوري، بحسب تحذيرات سابقة لحركة "حماس"، في ظل استمرار منع دخول الحليب والعلاجات الغذائية. كما أن آلاف الأطفال الآخرين، ممن يعانون من أمراض مزمنة أو إعاقات، يعيشون ظروفا مشابهة دون أي تدخل دولي يُذكر.
تقول الجدة: "إسرائيل تحارب أطفالنا، تقتلهم بالرصاص أو بالجوع.. وأين العالم؟ لماذا لا يتحرك أحد؟"، مضيفة أن غياب المساعدات لا يترك للعائلات الغزية سوى الانتظار والمشاهدة والعجز.
ورغم تقارير وتحذيرات عشرات المنظمات الحقوقية والإنسانية، لا يزال الاحتلال الإسرائيلي يفرض قيودًا مشددة على دخول المساعدات. ومع إعلان محكمة العدل الدولية أن ما يجري في غزة يرقى إلى جريمة إبادة جماعية، تستمر الانتهاكات بدعم غربي وأمريكي، فيما تقف الأنظمة العربية عاجزة أو صامتة.
في هذه الأثناء تبقى الطفلة مسك رمزا صارخا لطفولة مسحوقة تحت الحصار، ولصورة تكثف الجريمة المركبة التي تتعرض لها غزة منذ أشهر. فبين القصف والجوع، تنهار الأجساد الصغيرة، في صمت يُفترض أن يهز ضمير العالم.