نظّم المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين (ICJP)، اليوم السبت، ندوة فكرية وقانونية كبرى في العاصمة البريطانية
لندن، حملت عنوان: "الإبادة في
غزة: سياسة ترامب وأزمة القانون والإعلام"، بمشاركة شخصيات أكاديمية وإعلامية وحقوقية من العالم العربي والغرب، وبحضور نوعي لعدد من الناشطين والمهتمين.
ناقشت الندوة أبعاد الإبادة الجماعية الجارية، من زوايا القانون الدولي، والسياسة الأمريكية، ودور الإعلام الغربي في تغييب الحقيقة، وسط تزايد الانتقادات لما وُصف بـ”تواطؤ المؤسسات الغربية مع الجريمة”.
مداخلات أكاديمية حادة: من جذور العنف إلى تعطيل العدالة
شارك في الندوة عدد من أبرز المفكرين، من بينهم البروفيسور مارتن شو، أحد رواد دراسات الإبادة الجماعية في العالم، فكانت كلمته من أبرز لحظات الندوة، حيث قال: "ما يحدث في غزة الآن ليس مجرد انتهاك… إنها إبادة جماعية واضحة وصريحة”.
وفي مداخلته التي حملت عنوان: “الإبادة التي غيّرت العالم”، قال شو إن الخطاب الحقوقي الغربي يشهد تحولات غير مسبوقة، مشيرًا إلى أن حتى مؤرخين صهاينة مثل عُمر بارتوف بدأوا بمراجعة مواقفهم السابقة، وهو ما “يؤكد أن الإنكار لم يعد ممكنًا”.
وأكد شو أن إسرائيل لم تعد تعبأ بتغليف جرائمها بغطاء القانون الدولي، بل تمضي بوقاحة، مدعومة من الولايات المتحدة التي تواصل، بحسب وصفه، “تقويض شرعية المحكمة الجنائية الدولية”، في إشارة إلى الحملة الأمريكية الأخيرة ضد المدعي العام للمحكمة بعد طلبه إصدار مذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليين.
وشدد على أن “ازدواجية المعايير الغربية بلغت حدًا خطيرًا يجعل من مبدأ العدالة الدولية شكلاً من أشكال النفاق المنظم”.
في تعقيبه على مداخلة أحد الحضور الذي انتقد الصمت الأوروبي قائلاً: “نحن جميعًا شديدو الحساسية تجاه مشاعر اليهود، ولكننا لا نُظهر ذات الحساسية تجاه الفلسطينيين الذين يُبادون منذ عقود”، أبدى شو تأييده، مؤكدًا أن التحدي الحقيقي اليوم هو “بناء تحالف عالمي من الحركات والمجتمعات لمواجهة الغطرسة الغربية، بعد أن فشلت الأنظمة والحكومات في حماية المبادئ التي تزعم الدفاع عنها”.
الإعلام في مرمى الاتهام: BBC مثالًا
في جلسة ثانية، عقد المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين ندوة إعلامية بعنوان:
“الإبادة الجماعية في غزة: تغطية الإعلام الغربي ومعايير الازدواجية”، أدارها الناشط البريطاني علي ميلاني، بمشاركة الصحفية البريطانية راشيل شابي، وأستاذ الإعلام السياسي في كلية لندن للاقتصاد د. عمر الغزّي، والباحث في شؤون الإعلام فيصل حنيف.
انهيار الثقة في الإعلام الغربي
قدمت الصحفية البريطانية راشيل شابي في مداخلتها نقدًا لاذعًا لما وصفته بـ”التحول الأخلاقي الخطير” في الإعلام الغربي تجاه القضية الفلسطينية، مؤكدة أن وسائل الإعلام لم تعد تعامل الفلسطينيين كضحايا، ولا حتى كبشر كاملين.
وقالت شابي: "جيل والديّ كان يعتبر "بي بي سي" مرجعًا للحقيقة في مواجهة إعلام ديكتاتوري… اليوم، لم يعد أحد في منطقتنا يأخذها على محمل الجد. لقد خسروا الرصيد الأخلاقي الذي استندوا إليه لعقود".
وأضافت أن هذا الانهيار في الثقة ينبع من سياسات الرقابة الذاتية داخل غرف الأخبار، حيث يتجنب كثير من الصحفيين استخدام مصطلحات تصف الواقع كما هو، خوفًا من خسارة وظائفهم أو التعرض للملاحقة، ما يؤدي إلى تغطية منحازة ومحجوبة لواقع المأساة في غزة.
من جهته عرض حنيف دراسة تحليلية معمقة لمحتوى التغطية الإعلامية لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، كشفت عن انحياز صارخ ضد الرواية الفلسطينية، حيث أظهرت الأرقام أن الضحايا الإسرائيليين نالوا تغطية تزيد بـ33 مرة عن الفلسطينيين، عند مقارنة التغطية “لكل وفاة”.
كما تم استخدام كلمات مثل “مجزرة”، “ذبح”، “إبادة”، بشكل شبه حصري في وصف الهجمات التي استهدفت الإسرائيليين، بينما تم تجاهل هذه المصطلحات عند الإشارة إلى القصف الإسرائيلي الذي دمّر أحياء كاملة في غزة.
أضف إلى ذلك أن من أصل 2,350 ضيفًا إسرائيليًا استضافتهم BBC، لم يُستضف أكثر من 1,085 فلسطينيًا، في ظل بيئة تحريرية تسودها الرقابة الذاتية والخوف من المساءلة، كما أكدت راشيل شابي في مداخلتها.
"حرب على التاريخ” لا على الحاضر فقط
تحدث د. عمر الغزّي عن “الطبيعة البنيوية لهذا الانحياز”، مؤكدًا أن الإعلام الغربي لا يغيّب فقط حاضر غزة، بل ينخرط في إعادة صياغة تاريخ فلسطين.
وأضاف: "عندما تبدأ القصة من 7 أكتوبر، فإنك تمحو 75 عامًا من الاستعمار والقهر. إنها ليست صدفة… بل حرب على الذاكرة”.
الغزّي شدد على أن “الخطاب الإعلامي الغربي لم يعد مجرد منحاز، بل أصبح شريكًا فعليًا في إنتاج الصمت، وصياغة سردية استعمارية جديدة”، داعيًا إلى “تفكيك هذا الخطاب من جذوره، وتحميل المؤسسات الإعلامية مسؤولية أخلاقية”.
القانون الدولي.. منظومة عاجزة؟
في الجلسة الثالثة، التي حملت عنوان: "الإبادة والقانون الدولي: حين تُقيد العدالة نفسها”، ناقش الحضور مدى عجز المنظومة الدولية الحالية عن محاسبة مجرمي الحرب.
البروفيسور آفي شلايم: إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة بدعم غربي مباشر
في كلمة مؤثرة، أكد البروفيسور آفي شلايم المؤرخ البريطاني وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، في مداخلة بعنوان: "طريق إسرائيل إلى الإبادة”، أن “الإبادة الجماعية لم تكن حادثًا عرضيًا بل نتيجة لمسار طويل من السياسات العنيفة والاستعمارية”.
وشدد على أن الهجوم الإسرائيلي على غزة تجاوز كافة الخطوط، واصفًا إياه بـ”الإبادة الجماعية”. وأشار شلايم إلى أن القانون الدولي يحدد بوضوح أن الإبادة الجماعية تتمثل في نية تدمير مجموعة قومية أو دينية، وهو ما يتطابق مع الأفعال التي تقوم بها إسرائيل في غزة، من قتل مئات الآلاف وتشريد الملايين وتدمير البنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والجامعات.
وأكد شلايم أن بريطانيا تتحمل مسؤولية تاريخية في خلق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث أسهمت وعودها المتضاربة خلال الحرب العالمية الأولى، وخاصة إعلان بلفور 1917، في تمهيد الطريق للاحتلال والاستيطان المستمر.
وأضاف أن الدعم الغربي، خصوصًا البريطاني والأمريكي، ليس مجرّد موقف محايد، بل شراكة فعلية في ارتكاب جرائم الحرب، من خلال الحماية الدبلوماسية وتوفير الأسلحة والاستخبارات.
وأشار شلايم إلى أن الإعلام الغربي يميل إلى تبني الرواية الإسرائيلية، مع حجب روايات الفلسطينيين وحماس، وأن إسرائيل ترفض التحقيقات الدولية المستقلة في جرائمها، مما يعكس ازدواجية المعايير.
وختم كلمته بالتأكيد على أن استدعاء المحرقة لتبرير أفعال إسرائيل هو “ابتزاز أخلاقي”، وأن الفلسطينيين اليوم هم الضحايا الحقيقيون في هذا الصراع.
خنفر : نموذج فريد للصبر والمقاومة
في كلمته، استعرض وضاح خنفر تجربة محاولات القوى الغربية المتكررة لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط من خلال مبادرات متعددة أُطلقت تحت مسميات مختلفة مثل “الشرق الأوسط الجديد”. وأكد أن هذه المبادرات لم تخرج عن إطار الغطرسة والجهل العميقين بتاريخ المنطقة وتراثها وثقافتها، ما جعلها غير قادرة على تحقيق أهدافها الحقيقية.
وأوضح خنفر أن التاريخ يُظهر أن استخدام القوة العسكرية والتكنولوجيا الحديثة، بما في ذلك الأسلحة النووية أو الطائرات المتقدمة مثل B-2، لا يكفيان لفرض السيطرة الدائمة على المنطقة. وبيّن أن الأرض والشعوب في الشرق الأوسط تمتلك ذاكرة جماعية عميقة وتاريخًا يمتد لآلاف السنين من مقاومة الغزاة، مما يجعل أي محاولات لفرض أمر واقع تتعارض مع التاريخ والهوية المحلية مصيرها الفشل.
ركز خنفر بشكل خاص على الصمود الفلسطيني، حيث وصفه بأنه نموذج فريد للصبر والمقاومة في وجه الحصار والقصف والتدمير المستمر، مشيرًا إلى أن الصمت الفلسطيني ليس دلالة على الموافقة، ولا يُفهم الصمود كضعف. وذكر أن غزة تعرضت للقصف أكثر من 18 مرة، مما يجعل مقارنتها بدولة مثل فيتنام التي تعرضت للحرب لفترة طويلة مؤشراً على حجم الصراع والقوة التي يبديها الفلسطينيون رغم كل شيء.
وأشار إلى أن فلسطين والفلسطينيين يشكلون نقطة محورية في كل المحاولات لإعادة هندسة الشرق الأوسط، مؤكدًا أن أي خطوات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل لن تعيد الحقوق المسلوبة ولن تضع حدًا للمعاناة، بل ستظل إسرائيل في حالة قلق دائم طالما لم تعترف بالعدالة للفلسطينيين.
وفي الختام، حذر خنفر من أن الوضع الراهن في غزة يمثل لحظة مفصلية، يمكن أن تتحول إلى “مقبرة” للنظام العالمي القائم، معتبراً أن النظام الدولي قد وصل بالفعل إلى حالة انهيار أو تحطم، ما يعكس عمق الأزمة على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
دانيال ليفي يحلل جذور الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ودور الدعم الغربي
وقدّم الباحث والمحلل السياسي دانيال ليفي قراءة عميقة ومعقدة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مسلطًا الضوء على عوامل داخلية وخارجية تساهم في استمرار الأزمة وتصاعدها.
وأشار ليفي إلى أن المجتمع الإسرائيلي يتجه نحو تبني منطق “الصفر-مجموع”، حيث تُرسم خطوط المواجهة على أساس “هم أو نحن”، ما يفاقم الانقسامات ويجعل من الصعب التوصل إلى حلول سلمية. وأوضح أن هذا المنطق يدفع إلى تجاوزات كبيرة في السلطة وأعمال عنف لا تتوقف.
وفي جانب الدعم الدولي، انتقد ليفي الدور الغربي، مشيرًا إلى أن الدول الغربية قدمت لإسرائيل غطاءً سياسياً وأخلاقياً ساعد في خلق ما وصفه بـ”المخاطر الأخلاقية”، أي تشجيع إسرائيل على الاستمرار في سياساتها القمعية دون خوف من المحاسبة أو العقاب.
كما تناول الاتفاقات الإبراهيمية التي وقعت مؤخرًا بين إسرائيل ودول عربية، موضحًا أن هذه الاتفاقات لم تسبب مباشرة تصاعد العنف، لكنها عززت من إحساس إسرائيل بالإفلات من العقاب ورفعت من مستوى الثقة بالنفس لديها في سياق تصعيدها العسكري والسياسي.
وشدّد ليفي على أن إسرائيل نفذت عمليات عسكرية ضد الفلسطينيين لأكثر من 20 شهرًا دون أن تواجه رادعًا فعّالًا، رغم وجود تحديات حقيقية مثل هجمات الصواريخ الإيرانية ونقص مخزون الصواريخ الاعتراضية التي أثارت تساؤلات حول قدرة إسرائيل على الصمود.
في ختام حديثه، حذر ليفي من تبني تفسيرات ضيقة للمجتمع العربي، مستندة إلى أفكار نيوليبرالية واستشراقية متحيزة، مشددًا على أن فهم الواقع العربي بكل تعقيداته أمر ضروري لتجنب المزيد من التصعيد.
من جهته شدد المحامي طيب علي على أهمية التحرك القانوني رغم الصعوبات، مؤكدًا أن “تراكم الأدلة سيثمر في النهاية، ولو بعد حين، لأن الحقيقة أقوى من البروباغندا”.
واتفق المشاركون على أن “الإبادة في غزة” تمثل لحظة كاشفة لأزمة النظام الدولي برمته، وعلى ضرورة إعادة صياغة أدوات الفعل الحقوقي والتحالفات الشعبية، بما يضمن استعادة العدالة من براثن الصمت والنفاق.