في منتصف التسعينيات من القرن الماضي كتب المرحوم الدكتور محمد السيد سعيد
مقالا مهما في صحيفة الأهرام المصرية عن النخب
العربية (وقد أعيد نشره لاحقا في
عدد من المطبوعات). وكان من ديدن هيئة التحرير في ذلك الوقت أن تستدعي من يكتب
معلقا على مقال من هذه النوعية من المقالات، وكنت واحدا من هؤلاء الذين شاركوا
بالكتابة اشتباكا مع ذلك المقال؛ وأتذكر أنني قد عنونت مقالتي آنذاك "هل هناك
نخب من الأصل؟ وهل المقصودة تلك تستحق مسمى النخب؟". ومن بعد تلك الأطروحة
تتبعت مفهوم
النخبة ليس فقط من حيث مفهومها لغة، ولكن أبعد من ذلك من حيث وظيفتها
وتأثيرها، وكان من المهم أن أتابع وأطالع الكتابات حول هذه القضية من أي صاحب فكر،
والذي أكد البعض على مدخل الأزمة أيا كان من التعبير المستخدم في هذا الصدد؛ من
مثل "خيانة نخبة وأزمة شعب"، "محنة النخبة"، و"نزاع
النخبة"، و"نخبة الأزمة"، و"ازدواجية النخبة"، و"تحولات
النخبة"، و"النخبة العربية والقمع الذاتي"، و"النخبة مداخل
للاتصال والانفصال"، و"النخبة ووهم الفهم العميق"، و"تسلط
النخبة الفاسدة"، و"نخبة الثورة: جدلية العدم والبناء"، و"أوهام
النخبة"، و"انهزام نخبة ومستقبل بلد"؛ و"فشل النخبة".
كان الدكتور محمد السيد سعيد (رحمه الله) قد خلص في مقالته إلى أنه "إذا
كانت النخب العربية قد فشلت في تحقيق الآمال الكبرى للأمة، فإن جانبا من هذا الفشل
يجب أن يعزى لقرون من الركود والتخلف، هذا إن لم نضع في الصورة أيضا ما يتراوح بين
ثلاثين عاما ومائة عام من الاستعمار الغربي الحديث، وإذا اعترفنا بأن النخب الحاكمة
العربية قد انطبعت بكافة التشوهات الهيكلية الناشئة عن التخلف الممتد، والوقوع في براثن
الهيمنة الغربية، فإنها بالمعايير النسبية لم تكن الأسوأ في الساحة العالمية، وان لم
تكن بالقطع من بين النخب الأفضل تكوينا من النواحي الثقافية والسياسية والمهنية. وبهذا
المعنى، فإن الجانب الأساسي من التغير الذي لحق تكوين النخب العربية عبر الخمسين عاما
الماضية لا يجب أن يعود إلى عيوب التكوين، بقدر ما يجب تفسيره بالاختبارات السيئة في
مجال السياسة تحديدا، والمفتاح الأساسي لفهم هذه التشوهات هو في فهم طبائع النظم
الاستبدادية،
وما تقود إليه بالضرورة من ركود وتشوهات".
هل لدينا نخب حقيقية تمارس مهامها وأدوارها حريصة عليها، أم أنها فيما اتفق على تسميتها بالنخب لا تزال تتعلق بالأزمات والأزمة وما فتئت تعاني من أمراض مزمنة، تجعلها وجودا ودورا محل هذا الشك؟
ولهذا كان ذلك السؤال الذي طرحته بريئا لا يزال قائما: هل لدينا نخب حقيقية
تمارس مهامها وأدوارها حريصة عليها، أم أنها فيما اتفق على تسميتها بالنخب لا تزال
تتعلق بالأزمات والأزمة وما فتئت تعاني من أمراض مزمنة، تجعلها وجودا ودورا محل
هذا الشك؟ ولعل ما كشفت عنه الثورات العربية بعد مرور أكثر من عقد عليها كانت
مختبرا حقيقيا لما أُسمي بالنخب العربية، وعكست تلك التكوينات بحق أن تقوم بضد
أدوارها الحقيقية، وزيفت وظيفتها حتى أنها تستحق مفهوم "نخبة الضد"، إن
صح في عقل اللغة أن تجمع ما بين النخبة والمضاد لأدوارها. وباتت تلك
"النخب" مكشوفة ومفضوحة في مواقفها في مختبرين من عالم الأحداث وعالم
المواقف، أولها موقفها من المستبد الطاغية، وموقفها من الصراع المصيري مع الكيان
الصهيوني، فطفقت تبرر أفعالها ضمن مواقف مهينة تتسم بالوهن والهوان والمهانة.
تقوم "النخبة" بمصادرة أدوارها، فهي تأمن في كنف المستبد
وتعمل في تسويغ سياساته وتعيش في حجره، وهي بذلك لا تقيم للشعوب وزنا ولا للجماهير
حقا عليها، بل هي دوما وكما أدمنت تكيل السباب للجماهير وتهيل عليها التراب،
يتهمونها بالغباء وعدم الفهم وسوء التقدير، وأنها لا تعلم كنه مصالحها، ووفق قاعدة
"أبو العريف" أنه يثاب المرء رغم أنفه، وأن ما تفعله "النخبة"
هو عين الصواب، وهي بذلك جوقة الطاغية التي تعزف معزوفة المستبد الطاغية وإضفاء
القداسة على أفعاله وتصرفاته. وفي جانب آخر فإنها لا تزال تعيش في محضن ثقافة أخرى
تستعير منها المعايير وتمثل حضارة غير حضارتها بنفس المنطق من التبعية والذيلية لمجمل
إنسان الحضارة الغربية المعرفية والقيمية، وترتكب كل ذلك باللحاق بركب الحضارة
والتقدم، والحداثة والتحديث، فإن فشلت بإقناع الشعوب بذلك فإن منظومة السباب وكيل
الشتائم للشعوب التي ترزح تحت نير التخلف والجهل؛ جاهزة.
إنها في الأولى تأمن قيامها بدور "الذيل" فصارت تحيا ذيلية إن صح
ذلك في عقل أساليب اللغة، أو في فهم الواقع والتعرف على مكامنه، وهي مع الحضارة
الغالبة "نخب تابعة" لا نابعة، في معيارها وأنماط تفكيرها وفن إملاء
حضارة أخرى، أو على حد تعبير ابن خلدون "الولع" بتلك الثقافة ورؤاها
الحضارية.
في هذا السياق، يمكننا الحديث عن أزمة النخبة ونخبة الأزمة ضمن مجموعة من
المؤشرات تدل على هشاشة هذه النخب بما لا يمكنها من القيام بأدوارها. ولعل ذلك قد
خبرناه في أوقات كثيرة، أستطيع أن أقول إن ذلك منذ أن أنشأت الدولة القومية مفهوما
للمثقف أو الطبقة المثقفة (الانتلجينسيا)، فإنها رسمت دورا مسبقا له في سياق
التبعية المقيتة، رغم أن المثقف لا بد وأن يحمل هم الأمة، وأن يكون عينه على الأمة
لا السلطة.
أول هذه المؤشرات يتعلق بتلك العقلية الوصائية التي تقوم بها النخبة على
الشعب والجماهير، فهي تحاول أن تعبر عن نفسها بأن أي
تغيير لا بد وأن يمر من تحت
يدها، ولكنها في ذات الوقت غير مؤهلة للإسهام في عملية التغيير. وتبدو هذه العقلية
الوصائية أمرا تكتفي به في محاولة للبحث عن دور في رقعة ومساحات التغيير.
المؤشر الثاني أن هذه النخب تمتلك في خطابها لغة وخطابا اتهاميا، ويمكنني
أن أقول احتقاريا للجماهير والشعوب، فهي في أي مرة من المرات لم تتهم نفسها حتى مع
تكرار النكبات والنكسات، ولكنها غالبا ما لجأت إلى اتهام هذا الشعب إما بالجهل، أو
بعدم الوعي، أو بعدم قدرته على استيعاب ما تحمله هذه النخب في ميدان التغيير.
هذه النخب لم تقم بأي دور توعوي، بل في حقيقة الأمر شكلت "نخبة الضد"؛ وفشلت أن تكون مع التغيير على مستوى القول فقط، أما على صعيد الفعل فهي ضد عمليات التغيير الحقيقية، بالإضافة إلى ذلك فهي تقود عمليات الاستقطاب في المجتمع على مستويات عدة، ثقافية وسياسية، وتنمذج حالات من الكراهية والانقسام بين تكوينات المجتمع بأسره
أما المؤشر الثالث؛ فينطلق إلى حالة بلاغية في المقال، وفائض كلام، وزخرف
قول تحاول أن ترتكن إليه لتمرير مسألة ضعفها وخداع الجماهير بأنها تعمل من أجل
التغيير، ولعل هذا الأمر أدى إلى فجوة كبيرة من عدم الثقة بين الشعوب وتلك النخب
التي جثمت على صدرها.
المؤشر الرابع؛ يتعلق بأن هذه النخبة تجمدت وتحنطت؛ بشخوصها وأشكالها، بمواقفها
المتدنية التي تحاول في كل وقت أن تقنع الجماهير بأنها تعمل في صالحها وتحافظ
عليها، ولعل ذلك الخطاب الذي احترفته هذه النخب إبان طوفان الأقصى يعبر في الحقيقة
عن تهافت هذه النخب.
المؤشر الخامس؛ أن هذه النخب غالبا ما تلوذ بفكرة الدولتية التي اخترعها
النظام المستبد لتمرير قهره وطغيانه، إنهم في كل مرة يصرخون أننا لا شأن لنا
بالنظام، إننا نحمي الدولة، وفي حقيقة الأمر أن أعينهم على بعض من فتات ما يقدمه
ذلك النظام لمثل هؤلاء الذين يرتضون بهذا الفتات والذي يعبر عن هشاشتها وهامشيتها
في آن واحد.
المؤشر السادس؛ أن هذه النخبة حينما تحنطت ملأت المساحات بكل خطاب هو في
حقيقة الأمر لا يقدم ولا يؤخر، ولكنها أرادت أن تحجز لها مكانا في كل أمر يتعلق
بتغيير مستقبلي فيما أسميته بـ"النط في الحلل"، أي قبل أن تنضج الطبخة
يتم الهجوم عليها، ومن هنا فإنها حرست أبوابه، وانشغلت بحراسة البوابات عن تجديد
أفقها أو تجديد أدوارها واسترداد فاعليتها، ومن ثم حرصت دائما على ألا يكون لجيل
الشباب أي مكان معها، هي من تقرر من يدخل ومن يخرج، فصارت النخبة في حقيقتها نخبة
محنطة لا تقوى على الفعل، ولا تقوم بأي فاعلية.
ومن ثم، فإننا ضمن هذه الرؤية نستطيع أن نتعرف كيف أن هذه النخب لم تقم بأي
دور توعوي، بل في حقيقة الأمر شكلت "نخبة الضد"؛ وفشلت أن تكون مع
التغيير على مستوى القول فقط، أما على صعيد الفعل فهي ضد عمليات التغيير الحقيقية،
بالإضافة إلى ذلك فهي تقود عمليات الاستقطاب في المجتمع على مستويات عدة، ثقافية
وسياسية، وتنمذج حالات من الكراهية والانقسام بين تكوينات المجتمع بأسره. كل ذلك
يجعلنا نبحث في أزمة النخبة ونخبة الأزمة التي اختُبرت في كثير من المواضع، فلم
يكن لها الدور المطلوب والمكافئ لهذه الأزمات وضرورة الخروج منها، بل إنها أكثر من
ذلك قد أسهمت في تأزيم الموقف، بل وتعقيد وتأزيم الحلول، وأصبحت عائقا لعمليات
التغيير الحقيقية ومشاتله الإصلاحية. ومن هنا فإنه قد آن الأوان مع وجود إرهاصات
كبرى للتغيير الاستراتيجي الكبير القادم أن نبحث في شأن هذه النخبة المحنطة التي
أشرت إلى بعض أعمالها في صناعة الكراهية، فتحولت من نخبة محنطة الى نخبة منحطة
تفرق شعبها وتنحاز لبطش المستبد؛ ونستبدلها بنخبة أخرى قادرة على الفعل والفاعلية،
نخبة جديدة تعرف للتغيير حقه، وتعرف كيف يكون الدور الذي تقوم به وعليه.
x.com/Saif_abdelfatah