قضايا وآراء

من المنصة إلى القفص

"هناك من بين المنتسبين للقضاء المصري من يُستخدم بهذا الشكل ويقبل أن يكون جزارا يعتلي منصة مقدسة ممسكا بيده سكينا ويذبح الأبرياء وكأن دماءهم ماء"
لم يكن خبر وفاة المستشار شعبان الشامي رئيس محكمة جنايات القاهرة وأحد رؤساء دوائر الإرهاب -دوائر استثنائية شُكلت نهاية عام 2013 بغرض الانتقام من خصوم السلطة الحالية- خبرا ككل الأخبار، فبمجرد ذكر اسمه بعد مرور أعوام من انقطاع أخباره وانتهاء أدواره العاصفة بكل الحقوق والمدنسة لقواعد القانون وقيم الإنسانية من على منصة القضاء؛ تذكرت صرخات المظلومين غير المسموعة أمامه من داخل قفص زجاجي عازل خلف قفص حديدي لا يوفر للمتهمين حقهم في مباشرة إجراءات محاكمتهم، حيث لا يُسمع لهم صوت إلا لمن يأذن له صاحب المعالي الذي لا يشغله قانون ولا هو بدستور يبالي، فيخرج أمامه لدقائق لا تخلو من عنفه اللفظي ومحاولات التشويش وكأن الكلام أصبح أمام القاضي في ساحة العدل حراما! تذكرت تلك الحنجرة الغليظة والكراهية الدفينة والتعالي والغطرسة التي لم تقتصر فقط على المتهمين المطلوب التنكيل بهم بل طالت فرق الدفاع عن هؤلاء، وفي مقدمتهم طبعا الرئيس المنتخب الوحيد في تاريخ مصر المرحوم الدكتور محمد مرسي، الذي لم يسلم من إعداماته.

تذكرت بخبر وفاته كيف سيطر العجز على كل آليات القانون أمام آلة توحش لم تكتف بما اقترفته من جرائم بل شرعنتها وحصّنت أدواتها من كل ملاحقة أو عقاب، كيف كانت الآلام وفيرة في نفوس من شاركناهم قصصهم رصدا وتوثيقا، تذكرت حناجر غلبتها في نهر حديثها عن ألم الظلم الواقع على أصحابها، دموع غزيرة تأكدت معها أننا أمام ضمائر ضريرة.

تشكلت دوائر الإرهاب بصورة انتقائية وبمزيد من المخالفات القانونية، بحيث شملت تقريبا كل القضاة الذين أفصحوا عن مواقفهم الشخصية المعادية للفصيل الذي يحاكَم قادته وأعضاؤه أمام القضاء الاستثنائي، وهذا الإفصاح يكفي لإبعاد القضاة عن قضايا متعلقة بالمختلفين معهم، وفي هذا إهدار كبير لمبدأ استقلالية القضاء

تذكرت كيف عبّرت بالكلمات عن وقع أول هذه الأحكام والصدمة التي استيقظت عليها، لم أكن أتخيل أن هناك من بين المنتسبين للقضاء المصري من يُستخدم بهذا الشكل ويقبل أن يكون جزارا يعتلي منصة مقدسة ممسكا بيده سكينا ويذبح الأبرياء وكأن دماءهم ماء، وعلى غير عادتي في الكتابة التي تخضع للتنقيح والتعديل وجدت نفسي أنشر ما كتبته مرة واحدة بلا مراجعة وبلسان مصري أصيل، قلت عن هذه الصاعقة حينها:

"أحكام بتصدر جوّه قاعة محكمة، متفصلة بمقص دار، بمزاج أفنديهم كان القرار، عدموا العدالة بمشنقة، رفعوا قيمة البلطجة، في مهرجان اسمه البراءة للي إيده ملطخة، بدم اللي مات ماسك علم، رافع شعار أنا اللي سلاحي فلساني وبهتافي برج الكون. صلوا الجنازة عالقضاة، النهاردة يوم وفاتهم، والدفنة من غير الكفن، فـ المنيا واجب العزا، واللي رايح أوعى ينسى يجيب شموع، دي الشمس من كتر الدموع ضلمت واتألمت، لسانها حاله مكنش يومك يا عدالة، تبقي سجادة لرئيس يدوس عليكي بجزمته ويدنسك، مطرقة على راس بريء، كل ذنبه أن حلمه يعيش ضلك".

بكل تأكيد لكل إنسان محبوه ومقربون منه؛ له في قلوبهم محبة وود مهما كانت قسوته أو بطشه، ووجه بشوش يحمل لهم كل جميل مهما كان توحشه، يظل الإنسان إنسانا وبحاجة إلى مساحة مهما كانت خفية وصغيرة، يشعر فيها بالحب مهما عظمت بداخله الكراهية ويتمتع بالود والمحبة وإن فاض منه الظلم مع كل البشر. ولذلك فأنا دائما أتفهم كلمات الإطراء والثناء في أشخاص رصيدهم عند كل من يعرفونهم شر بل وشر مطلق، فربما يكونوا من قلائل عاملهم بوجه إنساني وأفاض عليهم من حبه الشحيح.

حالة الفرح التي غمرت قطاعا ليس بالقليل من الشعب المصري بخبر وفاة المستشار الشامي وصلت في بعض المواقف إلى حد الشماتة، وفي المقابل وجدنا هجوما عنيفا على هذا القطاع الذي يعاني من ظلم معالي المستشار المتوفى ومن معه من قضاة الدوائر الاستثنائية.

سارعت دار الإفتاء المصرية برد استنكرت فيه الشماتة وذكرت بأنها ليست من قيم الإسلام ولا الإنسانية! هي نفسها دار الإفتاء بمفتيها الذي لطالما أيد في رأيها الاستشاري المعمول به في القضاء المصري بإعدام مئات الأبرياء من المصريين، ولم تتحلّ ولو لمرة بالشجاعة وصون أمانة الإفتاء لتعلن رفضها هذه الأحكام رغم علمها اليقيني بأن هذه الأحكام ليست نتيجة محاكمات عادلة ولا أدلة صائبة. وهنا وجب سؤالها: ما هو حكم الإسلام في إهدار الدم بغير حق؟ وهل هو أشد عند الله من شماتة المظلوم في موت من ظلمه؟

على الجانب الآخر لم تتأخر أبواق السلطة الإعلامية والسياسية، وحضرت بوقاحتها المعتادة تصوّب سهام السفه والتشويه والطعن بوصلة نفاق واستنكار الشماتة. هؤلاء لم يتركوا نقيصة ولا جريمة إلا وارتكبوها؛ من تدليس وتحريض على الكراهية والقتل والطعن في ذمم الناس والشماتة في أموات المظلومين، وتعبيرهم في مشاهد غير إنسانية لا حصر لها على مدار سنوات عن مدى ابتهاجهم وشماتتهم مع كل حالة وفاة لرموز سياسية وفكرية لا تعترف بشرعية السيسي رئيسا لمصر وتراه قائد انقلاب عسكري! هذا أصدق مشهد لمقولة "الشيطان يعظ"! ولو أنّ في أمثال هؤلاء خيرا أو رجاء لسألتهم: أيهما أشد على النفس وعند الناس يا أهل التدليس والفتن؛ شماتة المظلوم أم فتنة المأجور المزموم؟

يقول أصحاب المصالح مع السلطة والمقربين منها، وغيرهم من المخدوعين فيها بشعارات الوطنية المزيفة، إن الرجل قد قال وقوله الحق وحكم وحكمه العدل، أُسندت إليه قضايا تمس أمن مصر فقضى بما يراه وعاقب بالقانون جناة! إذن فلماذا هذا السقوط الأخلاقي بهذه الشماتة في رجل قام بدوره ولقي الآن ربه؟

لن أخوض ساعيا في ردي على هذا السؤال في تفاصيل جرت في تلك المحاكمات، وعدد لا حصر له من المخالفات التي ستشهد عليها جدران تلك الباحات، ستشهد على اغتيال العدالة في عقر دارها. أستطيع أن أختصر ردي في بضعة سطور، لعل وعسى ترى تجتمع بها الحقيقة مع النور:

- دوائر الإرهاب التي ترأس إحداها المستشار الشامي هي دوائر استثنائية حالت دون مثول المتهمين أمام قاضيهم الطبيعي، وعلى الرغم من ذلك قبِل بالمشاركة في هذه المخالفة.

- تشكلت دوائر الإرهاب بصورة انتقائية وبمزيد من المخالفات القانونية، بحيث شملت تقريبا كل القضاة الذين أفصحوا عن مواقفهم الشخصية المعادية للفصيل الذي يحاكَم قادته وأعضاؤه أمام القضاء الاستثنائي، وهذا الإفصاح يكفي لإبعاد القضاة عن قضايا متعلقة بالمختلفين معهم، وفي هذا إهدار كبير لمبدأ استقلالية القضاء، وبالتالي فإن المستشار الشامي كان ضمن مجموعات استغلت منصبها القضائي في تصفية حسابات شخصية؛ سواء معهم أو مع من آلت إليهم مقاليد الحكم.

- بعيدا عن عدم التزام تلك الدوائر بقواعد المحاكمات العادلة وتمكين المتهمين من حقهم كاملا في الدفاع عن أنفسهم، اعتمدت تلك الدوائر تحريات الشرطة أو اعترافات انتُزعت من المتهمين تحت التعذيب كدليل إدانة وحيد استوجب توقيع عقوبات قاسية مثل الإعدام والسجن المؤبد، في تحد صارخ وفج للقواعد القانونية وما تواترت عليه أحكام محكمة النقض المصرية من عدم جواز الاستناد على تحريات الشرطة كدليل يُقضى به بأحكام قاسية مثل الإعدام والسجن المؤبد.

نحن أمام رئيس دائرة قضائية استثنائية تشكلت بصورة انتقائية للقيام بأدوار انتقامية في حق معارضي السلطة، لم تكتف بذلك بل لم تراع قواعد المحاكمات العادلة ولم تلتزم بالقانون عند إصدار أحكامها، وتغاضت عن وقائع تعذيب تحدث عنها أغلب المتهمين أمامها

إذن نحن أمام رئيس دائرة قضائية استثنائية تشكلت بصورة انتقائية للقيام بأدوار انتقامية في حق معارضي السلطة، لم تكتف بذلك بل لم تراع قواعد المحاكمات العادلة ولم تلتزم بالقانون عند إصدار أحكامها، وتغاضت عن وقائع تعذيب تحدث عنها أغلب المتهمين أمامها، ولعل حديث الشاب محمود الأحمدي عن وقائع التعذيب أبلغ مثال على عدم اهتمام المحكمة بالتحقيق في تلك الادعاءات والتأكد من الناحية الشكلية حفاظا على ما تبقى من قيمة مهنية لتلك الدوائر! لم يُفتح تحقيق واحد في وقائع التعذيب.

فإذا كان رصيده على هذا النحو من العصف بالحقوق وظلم الناس إرضاء لطرف على حساب العدل وقيمه، وهو في الأصل سيف العدالة وحصن المظلوم وملاذه، فلا وجه للاستغراب من فرحة من طالهم ظلمه، خاصة وأن آمالهم في الإنصاف منعدمة في الحياة الدنيا في ظل وجود السلطة التي نفذ لها ما تريد، ولكن آمالهم في خالقهم لم ولن تنقطع، لعل سر هذا الفرح يكمن في أن الحماية التي حالت دون محاسبته في الدنيا قد انتهت بوفاته وانتقل إلى حيث الحساب والعقاب.

هذا الموقف لا يعبر عن خصومة أو عداء مع القضاء المصري كمنظومة لها تاريخ كبير في تحقيق العدالة وإنصاف المظلوم وتطبيق صحيح القانون، وإنما هو موقف رافض لاستخدام القضاء المصري في عمليات انتقام غير قانونية لمواطنين مصريين على خلفية سياسية، فالقضاء المصري بتاريخه ورموزه أكبر من أن يكون أداة بهذا الشكل لسلطة تنفيذية ليس لها سلطان على السلطة القضائية.

وفي ختام هذا الكلام أقول إنه لا يملك أحد الحق في إلقاء لوم على مظلوم نتيجة شعوره بالراحة أو تلقيه خبر وفاة ظالمه بسعادة، فهذا شعور إنساني طبيعي لا يتعارض مع الفطرة السوية ولا النفس النقية، أما الشماتة فهي أمر آخر لا يأتي به قلب بالخير زاخر، لا يحمل في طياته وجه تفاخر.

هذا ما في نفسي ويحمله عقلي، والله أعلى وأعلم..