قضايا وآراء

تركيا.. تهديد استراتيجي محتمل لإسرائيل في المنطقة

"تدمير 80 في المئة على الأقل من القدرات العسكرية السورية"- إكس
مباشرة بعد سقوط نظام الأسد ولجوئه إلى روسيا شعرت إسرائيل بتهديد لأمنها القومي، أثارته خشيتها من وقوع أسلحة استراتيجية في يد الثوار الإسلاميين، فلجأت إلى شن هجمات مركزة شملت مواقع في طرطوس وحلب واللاذقية والقنيطرة وحماة وحمص ودرعا والسويداء وغيرها، في أكبر عملية جوية في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، طالت 480 هدفا، ودمرت خلالها مروحيات وطائرات مقاتلة ومستودعات للصواريخ وأسلحة متقدمة، وأسفرت هذه العملية عن تدمير 80 في المئة على الأقل من القدرات العسكرية السورية، فيما ترجح تقارير أن جيش الاحتلال يعتزم القضاء على ما تبقى من تلك القدرات في الأسابيع المقبلة.

غير أن الهدف الاستراتيجي في هذه العملية الجراحية الدقيقة والمستعجلة والذي سيكون لتدميره تداعيات إقليمية يتمثل في أنظمة الدفاع الجوي السوري، التي تطمح إسرائيل إلى جعلها عقيمة بما يتيح لها تحريك الجبهة الأمامية الجوية مسافة 600 إلى 700 كيلومتر باتجاه إيران، لتصبح بذلك أقرب إلى حدود سوريا الشرقية، مما يمكن مقاتلات إف-35 التابعة لجيش الاحتلال من التزود بالوقود للوصول إلى إيران، حيث إنّ طائرات التزود بالوقود والتي تفتقر إلى تقنيات التخفي كبيرة الحجم وبطيئة الحركة، ما يسهّل إسقاطها بأقدم المدافع المضادة للطائرات، وهنا تكمُن مشكلة إسرائيل، إذ إنّ مقاتلات إف-35 التي لا يتجاوز مداها 2,100 كيلومتر، وعلى خلاف مقاتلات إف-16، يمكنها التسلل تحت أعين أنظمة الدفاع الجوي التي دمرت إسرائيل أغلبها في العملية الجوية الأخيرة، غير أنّ مسافة رحلة الذهاب من مطار رامات ديفيد الإسرائيلي إلى طهران والعودة التي تبلغ 3,000 كيلومتر على الأقل، تجبرها على التزود بالوقود مجدّدا، ويبدو أنّ تحييد الدفاعات الجوية السورية يمثل حلا مثاليا لهذه المشكلة.

ومع هذا لم تنته مشكلة إسرائيل عند هذا الحدّ، على الأقل بعد أن تتمكن السلطة الجديدة في سوريا من حلّ إشكالات الدولة الجديدة وانتقال السلطة ونزع فتيل حرب أهلية محتملة جدا بين مختلف التشكيلات العرقية السورية، وقطع دابر فلول النظام المخلوع، وتوفير الحد الأدنى من الاستقرار. فسوريا في عهد الشرع هي حليف قوي لتركيا، وقد نقلت صحيفة "حرييت" التركية بأن وفدا عسكريا تركيا سيزور دمشق خلال الأيام المقبلة، وأن أنقرة ستساهم في إعادة هيكلة الجيش السوري وستعمل على تزويده بمنتجات الصناعات الدفاعية التركية المتطورة لتعزيز قدرات الجيش السوري.

من جهتها، وكالة أسوشييتد برس، وهي تتساءل عمّا إذا أصبحت سوريا مسرحا لحرب بالوكالة بين تركيا وإسرائيل، ذكرت أن سقوط نظام بشار الأسد زاد من تفاقم العلاقات المتوترة بالفعل بينهما، وأشارت إلى أن مصالح الطرفين المتضاربة في سوريا تدفع بالعلاقة نحو مسار تصادمي محتمل.

ويبدو واضحا من هذه المعطيات أن مبعث التوتر في العلاقات وتضارب المصالح هو فقدان إسرائيل قدرتها على توجيه ضربات استراتيجية لإيران، في حال ما إذا سارعت تركيا إلى تجديد منظومة الدفاع الجوي التي فقدتها سوريا بأخرى أكثر تطورا وعملت على حمايتها عبر إقامة قواعد عسكرية لها داخل الأراضي السورية.

هذا الأمر لن يقف عند هذا الحد، فتركيا ستصبح عمليا في تماس مباشر مع إسرائيل ما قد يؤدي إلى أن ترتفع درجة تهديدها لها، وهو ما يعني أن إسرائيل بدل أن تجد نفسها وقد قضت على محور المقاومة وإيران فإن الهزات الارتدادية لطوفان الأقصى تكون قد أكسبتها عدوا استراتيجيا جديدا هو تركيا، التي يصبح احتمال أن تشكّل مستقبلا من خلال "وكيلتها" سوريا جبهة قتال جديدة واردا بالنسبة للكيان الصهيوني.

هذا الدور الجديد لتركيا سيجعلها في اتصال مباشر، ليس فقط مع دول مجاورة على غرار الأردن ولبنان، بل حتى مع المكونات الديمغرافية المختلفة للمنطقة، لتستعيد الدور التاريخي للدولة العثمانية في المنطقة، وعلى صعيد الدور الاجتماعي قد تصبح تركيا حامية السُّنة في المنطقة، وسيمتد تأثيرها بالإضافة إلى العراق وسوريا، إلى لبنان والأردن وفلسطين أيضا، وسيمكنها دورٌ كهذا من مزاحمة النفوذ السعودي خاصة في لبنان.

تركيا بحكم أنها تضم أكبر تجمع للعلويين في المنطقة بوسعها توظيف هذه الورقة من أجل ملء الفراغ الإيراني والسعي لتهدئة الاستقطاب بين السُّنة والعلويين الذين سيضعون ثقتهم في تركيا أكثر، وبهذا ستنفك روابطهم مع إيران مستقبلا إن نجحت أنقرة في إقناعهم واستمالتهم عبر أدواتها الناعمة وتوظيف إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية في الدولة السورية الجديدة بشكل متساوٍ ودون تمييز بين جميع الطوائف.

بالنسبة لإسرائيل فإنّ تركيا امتلكت مفاتيح سوريا، من الناحيتين الجيواستراتيجية والديمغرافية إضافة إلى علاقاتها المتينة مع حكامها الجدد، وقد تمكنها مكانتها الجديدة هذه مستقبلا من إسناد القضية الفلسطينية عبر أدوار أكثر فاعلية، ربما تبدأ متزنة ومتعقلة لتنحو باتجاه الضغط والإكراه مستقبلا، حيث ستصبح أكثر قربا من العرب، وبوسعها عقد تحالفات عسكرية مماثلة لما تعتزم إقامته مع سوريا مع دول أخرى؛ على غرار لبنان والأردن والعراق، بل حتى مصر ودول الخليج، وبالتالي التأثير على قراراتهم في عكس اتجاه ما كانت تطمح إليه طوال عقود من ترويض للدول العربية عبر مسارات المفاوضات والتطبيع، فإسرائيل تخشى من "مكر استراتيجي" محتمل قد تمارسه تركيا بما يمكنها من التعامل تدريجيا وبشكل أوسع مع عدد من الملفات التي تخصّ الضفة وحتى غزة، وهذا ما سيحرجها أكثر، إذا حافظت سوريا على استقرارها في المستقبل.

ولعلّ مخاوف من هذا النوع هي ما يقف وراء دخول إسرائيل في لعبة تركيا، وهي ما جعلها تسعى جاهدة لإضعاف سوريا من جوانب عدة، أهمها اللعب على وتر الطائفية المفضي إلى التقسيم بتحريك الورقة الدرزية وإبقاء جذوة الصراع السني- الشيعي مشتعلة في المنطقة على الجبهة السورية اللبنانية وداخل كليهما، إلى جانب حرصها من البداية على توسيع المنطقة العازلة منزوعة السلاح على الحدود مع سوريا بما يتيح لها تأمين كيانها أكثر وسرعة الردّ على أي تحرك محتمل ومراقبة ما يحدث في دمشق عن كثب.