دور
بنغلاديش
الإنساني في أزمة
الروهينغا وثيقة فريدة لقيادة أخلاقية صامتة. في القرن الحادي
والعشرين، وقد أضناه توالي الحروب، وأثقل كاهله شبح الإبادات الجماعية، واتسعت فيه
دوائر الاضطهاد العرقي وتدفقات اللجوء القسري، غدت الإنسانية سؤالا مؤجلا، يتوارى
خلف ستار المصالح الضيقة وحسابات الجغرافيا السياسية الباردة. وفي قلب هذا المشهد
الكالح، برزت دولة نامية مكتظة بالسكان في جنوب آسيا؛ لا بصخب الشعارات ولا بضجيج
الادعاءات، بل بصمت راسخ وعزم أخلاقي نبيل، لتؤدي دورا إنسانيا استثنائيا يستحق أن
يدون في سجل الضمير العالمي.
إن موقف بنغلاديش
من مأساة الروهينغا لا يُختزل في كونه تجربة إدارية في تدبير شؤون
اللاجئين، ولا
يقاس بأرقام المخيمات وحجم المساعدات وحدها، بل يتجاوز ذلك ليغدو شهادة حية على
إنسانية متجذرة، ودليلا ساطعا على قيادة أخلاقية اختارت أن تعمل بصمت، وأن تقدم
الفعل على الخطاب، والضمير على المصلحة، والإنسان على الحسابات الباردة.
جماعة
مثقلة بوطأة الاضطهاد:
يعد
الروهينغا من أكثر الجماعات البشرية اضطهادا وتجريدا من الحقوق في عالمنا المعاصر،
جماعة سُلبت هويتها، ونزعت عنها صفة المواطنة، وحوصرت لعقود في ولاية راخين
بميانمار، بحرمان ممنهج من أبسط مقومات الحياة: فلا حرية تنقل، ولا حق في التعليم،
ولا ضمان للرعاية الصحية، ولا أمان لوجود إنساني كريم. ثم جاء عام 2017 ليشكل
الذروة المظلمة في تاريخ معاناتهم، حين نفذت القوات العسكرية في
ميانمار ما أطلقت
عليه عمليات التطهير، فكانت في حقيقتها فصلا دمويا من الإحراق الشامل للقرى،
والاعتداءات الوحشية على النساء والأطفال، والقتل العشوائي الذي لا يفرق بين شيخ
ورضيع. أمام هذا الجحيم المفتوح، لم يجد مئات الآلاف من الروهينغا سوى الهروب
سبيلا، فغامروا بأرواحهم، وعبروا الحدود بحثا عن نجاة تحفظ لهم ما تبقى من
إنسانيتهم.
ليست
حدودا مغلقة بل أفق إنساني مفتوح:
في تلك
اللحظة الفاصلة، اتخذت بنغلاديش قرارا لم يكن هيّنا ولا خاليا من الأكلاف. ففي ظل
موارد اقتصادية محدودة، وضغط سكاني خانق، وتحديات تنموية متراكمة، ومخاطر مناخية
متصاعدة، كان بوسعها أن توصد أبوابها وتعتصم بحسابات المصلحة الضيقة، غير أنها
اختارت طريقا آخر، طريقا قدمت فيه الواجب الإنساني على كل اعتبار. لم تنظر إلى
الهاربين من الموت من زاوية الوثائق المفقودة أو الأعباء المتوقعة، بل رأت فيهم
بشرا يستحقون الحماية والكرامة. نساء وأطفال وشيوخ، بلا أوراق ولا مظلة دولية،
وجدوا في بنغلاديش ملاذا لا يقاس فقط بما وفره من مأوى وغذاء، بل بما منحه من
اعتراف صامت بإنسانيتهم، وحقهم الأصيل في الحياة.
"كوكس
بازار" مختبر واسع لامتحان الإنسانية:
في أوخيا
وتيكناف، على تخوم كوكس بازار، تشكل مشهد إنساني غير مسبوق، حيث قامت واحدة من
أكبر حواضن اللجوء في العالم، لا بوصفها مجرد تجمعات من الخيام، بل كساحة كبرى
لاختبار قدرة الإنسان على صون كرامة أخيه الإنسان في أحلك الظروف. ففي زمن وجيز،
انبثقت منظومة متكاملة لتأمين الغذاء، وتقديم الرعاية الصحية، وإطلاق حملات
التطعيم، وتوفير المياه الصالحة للشرب، وبناء مرافق الصرف الصحي، في سباق مع الزمن
لتثبيت الحياة على حافة الانهيار.
ولم تغفل
هذه الاستجابة عن مستقبل الأطفال، إذ شيدت آلاف المراكز التعليمية المؤقتة، كي لا
تُترك أجيال كاملة فريسة للضياع، ولا يختزل مصيرها في ذاكرة الخيام والحرمان. وهنا،
لم يكن التعليم ترفا إنسانيا، بل فعلا إنقاذيا، يحمي المستقبل من السقوط في العتمة.
وفي إدارة
هذا المشهد الإنساني بالغ التعقيد، تقدمت بنغلاديش الصفوف، فجمعت بين القيادة
والمسؤولية، وأحسنت نسج شبكة تنسيق فعالة مع المنظمات الدولية والهيئات الإنسانية
غير الحكومية. وقد كشفت هذه التجربة أن الأزمات الكبرى لا تواجه وفرة بالموارد
بقدر ما تواجه بحكمة التنظيم، وأن محدودية الإمكانات لا تعني عجزا حين تتكامل
الإرادة والتخطيط.
الدين
والإنسانية الجذر الأخلاقي للتعاطف:
ومن أعمق
ملامح الدور البنغلاديشي في مأساة الروهينغا ذلك التفاعل الأخلاقي والديني الذي
سرى في جسد المجتمع. ففي بيئة ذات أغلبية مسلمة، لم يكن التعاطف مع الروهينغا
شعارا عابرا، بل إحساسا فطريا ترجم إلى أفعال، عبر الزكاة والصدقات والفطرة
والمبادرات التطوعية. ولم تكن المساجد مجرد فضاءات للعبادة، بل تحولت إلى منابر
للرحمة، ومراكز لبث الطمأنينة في نفوس المنكوبين.
أما
القيادات الدينية، فقد اختارت أن تقف في الضفة المقابلة للعنف والانتقام، رافعة
خطاب الصبر، ومؤكدة على قيم الإنسانية والعدل، في وقت كانت فيه مشاعر الغضب واليأس
قابلة للاشتعال. وهو دور ظل في كثير من الأحيان بعيدا عن أضواء الإعلام الدولي،
رغم كونه أحد الأعمدة الصامتة التي أسهمت في احتواء الأزمة، وحفظ التوازن
الاجتماعي في مواجهة واحدة من أقسى المحن الإنسانية في عصرنا.
المجتمع
المحلي سردية التضحيات الصامتة:
لم تكن
مأساة الروهينغا عبئا ملقى على عاتق الدولة وحدها، بل امتد ثقلها ليطال المجتمعات
المحلية التي وجدت نفسها، فجأة، في مواجهة واقع قاس لا خيار فيه ولا مهرب. ففي
ربوع كوكس بازار، قبل كثير من السكان أن يدفعوا كلفة إنسانية باهظة، فتنازلوا عن
أراض اعتاشوا منها طويلا، واضطربت مصادر رزقهم، واختل التوازن البيئي الذي كان
يشكل إيقاع حياتهم اليومي. ومع ذلك، لم تنفجر المنطقة بصراعات اجتماعية عارمة، ولم
تنزلق إلى فوضى الانتقام أو التنازع، بل سادها صبر لافت، وضبط نفس نادر، يعكس عمقا
أخلاقيا راسخا في الوعي الجمعي.
هذا
السلوك الهادئ من السكان المحليين لم يكن مجرد تحمل سلبي للأعباء، بل كان شريكا
صامتا في صناعة الدور الإنساني الذي اضطلعت به بنغلاديش. فقد منح هذا التعاطي
المتزن القيادة البنغلاديشية سندا مجتمعيا، ورسخ صورة إنسانية لا تصدر عن قرار
رسمي فحسب، بل تنبع من نسيج اجتماعي قادر على التضحية حين تقتضيها القيم.
غير أن
هذا المشهد لم يخلُ من تحديات جسيمة، فوجود أعداد هائلة من اللاجئين ألقى بظلال
ثقيلة على الأمن والبيئة معا. غابات استنزفت، وتلال انهارت، ومخاطر جرمية برزت إلى
السطح، بوصفها تبعات لا يمكن إنكارها. غير أن بنغلاديش لم تتعامل مع هذه الوقائع
بعين الإنكار أو التسطيح، بل واجهتها بإدارة مسؤولة، سعت من خلالها إلى احتواء
المخاطر دون التفريط في جوهر الالتزام الإنساني.
وفي هذا
السياق، برزت معادلة دقيقة: كيف تصان كرامة اللاجئ دون أن يهدد استقرار الدولة؟
وكيف تستمر المساعدة الإنسانية دون أن تتحول إلى عبء أمني؟ وقد نجحت بنغلاديش، إلى
حد بعيد، في حفظ هذا التوازن الدقيق، مثبتة أن الحكمة في إدارة الأزمات لا تقاس
بوفرة الموارد، بل بقدرة الدولة والمجتمع معا على الموازنة بين الرحمة والحزم،
وبين الواجب الإنساني ومتطلبات الأمن الوطني.
سؤال
أخلاقي موجه إلى الضمير الدولي:
تتجلى
أعظم مفارقات مأساة الروهينغا في أن الدولة التي لم تكن سببا في نشأتها، هي ذاتها
التي اضطرت إلى حمل أثقل أعبائها. فبنغلاديش، التي لم تصنع جذور هذه الكارثة، وجدت
نفسها في مواجهة تبعاتها الإنسانية القاسية، دون أن تتوسل بها مكسبا سياسيا أو
توظفها ورقة في لعبة المصالح. بل مضت، بهدوء يليق بثقل المسؤولية، تطرق أبواب
المجتمع الدولي بنداء واحد لا يتغير: حل عادل يعيد الروهينغا إلى ديارهم عودة
آمنة، طوعية، تحفظ الكرامة ولا تهدر الحق.
وفي
جوهرها، ليست هذه الأزمة مجرد ملف إنساني عابر، بل محك أخلاقي للنظام الدولي بأسره.
إنها امتحان لصدق الالتزامات المعلنة بشأن حقوق الإنسان، ومنع الإبادة الجماعية،
وحماية اللاجئين من أن يتحولوا إلى ضحايا منسيين على هامش الجغرافيا السياسية.
فقضية الروهينغا تكشف، بوضوح مؤلم، المسافة بين الخطاب الأخلاقي الرفيع والممارسة
الفعلية حين تغيب المصالح المباشرة، وتغدو المبادئ عبئا لا مكسبا.
لقد برهنت
بنغلاديش، من خلال موقفها، أن القيادة الإنسانية لا تقاس بامتلاك القوة العسكرية،
ولا بحجم النفوذ الاقتصادي، ولا باتساع الحضور الدبلوماسي. إنها، في جوهرها، فعل
شجاعة أخلاقية، وتعبير عن تماسك اجتماعي، وتجسيد لرؤية دولة تدرك أن المسؤولية لا
تكتمل إلا حين تقترن بالعدل. وبرغم كونها دولة نامية، فقد نجحت بنغلاديش في تقديم
نموذج إنساني يستحق أن يتجاوز حدود الإشادة العابرة، ليكون موضوع نقاش عميق في
الضمير العالمي.
إن دور بنغلاديش
في أزمة الروهينغا ليس رواية دعائية صاخبة، ولا سردية صُنعت لتلميع الصورة، بل
التزام إنساني هادئ، واقعي، طويل النفس، تشكل عبر الزمن وتكرس بالفعل لا بالقول.
وفي عالم اعتاد أن يحول اللاجئين إلى أرقام جامدة وإحصاءات باردة، اختارت بنغلاديش
أن تراهم بشرا أولا، وأن تتعامل معهم بوصفهم حياة ينبغي حمايتها لا عبئا ينبغي
التخلص منه.
قد يعثر
التاريخ، يوما ما، على تسوية سياسية تنهي هذه المأساة، وقد تتغير المواقف وتتبدل
الحسابات. غير أن ما بات ثابتا بالفعل هو أن بنغلاديش قد رسخت اسمها في سجل
الإنسانية، لا كدولة أدت واجبها فحسب، بل كضمير حي اختار أن يقف إلى جانب الإنسان،
حين كان الصمت أسهل، والتجاهل أقل كلفة.