صحافة دولية

FP: كيف نمنع تحول تعافي غزة إلى مشروع يمتد لثمانين عاماً؟

تواجه غزة ما يُقدّر بنحو 68 مليون طن من الأنقاض وهو أكثر مما واجهته مدن مثل الموصل - جيتي
تواجه غزة ما يُقدّر بنحو 68 مليون طن من الأنقاض وهو أكثر مما واجهته مدن مثل الموصل - جيتي
شارك الخبر
نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقالًا للخبيرة في التعافي بعد النزاعات والكوارث، والنزوح القسري، وشؤون الشرق الأوسط في مؤسسة راند، شيلي كولبرتسون، قالت فيه إنه عندما تنتهي الحروب، يجب أن يتجه الاهتمام إلى ما يليها، وهو "العمل الشاق لإعادة الإعمار في غزة".

إعادة بناء تُقدّر بأكثر من 70 مليار دولار
كولبرتسون قالت، رغم منح وقف إطلاق النار الهش وإطار السلام المكون من 20 بندًا بعض الأمل، لكن هذه أيضا لحظة للواقعية الرصينة، فالدمار في غزة هائل، حوالي 70 بالمئة من جميع المباني متضررة أو مدمرة، و90 بالمئة من السكان نزحوا، والبنية التحتية الأساسية مدمرة. مع تعطل المستشفيات والمدارس، وانقطاع الخدمات الأساسية، ستحتاج غزة إلى إعادة بناء شاملة بتكلفة تُقدّر بأكثر من 70 مليار دولار.

وبالطبع، لا يمكن البَدْء بإعادة الإعمار قبل تذليل العقبات السياسية والأمنية، فلم تُبدِ إسرائيل ولا حماس التزامًا حقيقيًا بإعادة بناء غزة أو بتفعيل آليات الحكم اللازمة لذلك. ومع ذلك، حتى مع بقاء هذه القضايا عالقة، فقد حان الوقت للتفكير مليا في التدابير اللازمة للتعافي نفسه.

كولبرتسون أكدت أن تعامل المجتمع الدولي والجهات الفاعلة الإقليمية مع إعادة إعمار غزة دون رؤية مشتركة، وجداول زمنية واقعية، وتخطيط غير كافٍ، فأن الجهود ستفشل، أما إذا تمكن المخططون والممولون والحكومات من التنسيق منذ البداية، فإن إعادة الإعمار المادي لغزة ستكون عنصرًا حيويًا في تهيئة الظروف اللازمة لتحقيق استقرار دائم، وستحدد طريقة إعادة بناء غزة في السنوات القليلة المقبلة، وهو ما يطرح تساؤلًا فيما إذا كانت هذه اللحظة ستكسر حلقة العنف الطويلة في المنطقة أم ستكون مجرد فجر زائف آخر.

لقد دمرت الحرب في غزة التراث الفلسطيني، حيث تضررت معالمها الطبيعية لدرجة أن العديد من الفلسطينيين قد لا يتعرفون على وطنهم. وبينما من المهم إدراك ما فُقد والاعتراف باستحالة استعادته بالكامل، فإن المضي قدما قد يتطلب النظر إلى هذه اللحظة كفرصة للبدء من جديد وإعادة تصور البنية التحتية للقطاع برمتها.

هل يمكن تحويل غزة من رمز للخراب إلى نموذج للتجديد؟
وقد طورت مؤسسة راند رؤية مكانية لغزة والضفة الغربية بالتعاون مع مخططين إسرائيليين وفلسطينيين وأمريكيين، تأخذ في الاعتبار احتياجات البنية التحتية والمؤسساتية في ستة قطاعات، وهي "النقل، والطاقة، والمياه، والتصميم الحضري، والحوكمة، والبيئة. ويُظهر أن غزة يُمكن إعادة بنائها ليس فقط لاستعادة ما فُقد، بل لتصبح منطقة حديثة ومستدامة تخدم سكانها، وتساهم في الاقتصاد الإقليمي، وربما تجذب السياحة في المستقبل. ويمكن لمدن غزة أن تنضم إلى مدن أخرى ذات قوة اقتصادية عظمى في الشرق الأوسط، مثل عمّان ودبي ومسقط، ومثل هذه الرؤية قادرة على تحويل غزة من رمز للخراب إلى نموذج للتجديد الإقليمي.

مع ذلك، حتى مع وجود رؤية واضحة، تستغرق جهود إعادة الإعمار - من العراق ما بعد تنظيم الدولة إلى الولايات المتحدة بعد إعصار كاترينا - وقتا أطول بكثير مما يتوقعه العديد من القادة والجهات المانحة، حيث إن الخطط التي تتصور إعادة إعمار غزة بالكامل في غضون خمس سنوات لا تأخذ هذا الأمر في الحسبان، على الرغم من أهمية تسريع وتيرة إعادة الإعمار على المدى القصير.

قد يمتد الجدول الزمني لإعادة إعمار غزة لعقود
وحتى الدول المزدهرة والمسالمة وجدت أن التعافي من الكوارث الكبرى غالبا ما يستغرق عقدا أو أكثر، وفي السياقات غير المستقرة والمعرضة للصراعات، قد يمتد الأمر إلى أجيال، ولعل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية خير مثال على ذلك، فحتى بعد مرور عشر سنوات، تم الإشادة بألمانيا الغربية باعتبارها معجزة اقتصادية، بينما ظلت عملية إعادة إعمار ألمانيا الشرقية غير مكتملة، وبالتالي فأنه بدون نهج دقيق، قد يمتد الجدول الزمني لإعادة إعمار غزة لعقود.

ومع هذا، لا ينبغي أن يكون ذلك مدعاة لليأس، بل للاستعداد، وهو ما يستلزم أن تتناول خطة إعادة الإعمار العملية التحديات الحتمية قبل الشروع في التنفيذ، ومنها "عدم وضوح حقوق الملكية، والأنقاض، والسكن الفوري، والقيود المفروضة على المواد، والإدارة، ونقص العمالة"، كلٌّ من هذه التحديات قادر على عرقلة تعافي غزة قبل أن يبدأ، لكن يمكن التخفيف من آثار كلٍّ منها بالرؤية والتخطيط.

تُعدّ ملكية العقارات قضية أساسية في إعادة إعمار غزة. فكل قطعة أرض مملوكة لشخص ما، ومع ذلك، غالبا ما تكون الملكية غير واضحة. حتى قبل حرب إسرائيل وحماس، كان نظام الملكية خليطًا من القوانين المحلية والإسرائيلية والعثمانية والبريطانية والمصرية، ممزوجًا بمطالبات غير رسمية وسجلات مفقودة، مما يُؤجّج النزاعات المستمرة، وبالتالي يُعدّ وضع إطار للملكية والتعويض وحل النزاعات أمرا ضروريًا قبل أن تتمكن المجتمعات الجديدة من الظهور وإعادة بناء المجتمعات القائمة.

كما يُمثّل التعامل مع الأنقاض التحدي التالي، حيث تواجه غزة ما يُقدّر بنحو 68 مليون طن من الأنقاض، وهو أكثر بكثير من مدن مثل الموصل - التي بلغت حمولتها من 7 إلى 8 ملايين طن متري كما تضمّ هذه الأنقاض رفات بشرية، وما يُقدّر بنحو 7500 طن متري من الذخائر الإسرائيلية غير المنفجرة، وقدّرت الأمم المتحدة أن إزالة الأنقاض وحدها قد تستغرق 20 عاما. وفي الموصل، حيث لا تزال 15بالمئة من الأنقاض مدفونة، لم تكتمل عملية التنظيف بعد ثماني سنوات.

يُمثّل توفير السكن لجميع الفلسطينيين المُهجّرين تحديا آخر
سيكون من الضروري تحديد أولويات المناطق التي يمكن تنظيفها وإعادة بنائها أولا، وتطويق المناطق الخطرة، وتوفير المعدات الكافية، وإزالة الذخائر غير المنفجرة، وتأمين مواقع التجميع لمعالجة الأنقاض المُزالة، والتعامل بعناية مع الرفات البشرية. وستتطلب إزالة الأنقاض بكفاءة تعاونا دوليا، وربما تقنيات جديدة، مثل رسم خرائط المخاطر باستخدام الذكاء الاصطناعي، لتسريع وتيرة العمل. في الوقت نفسه، يمكن أن تُصبح أنقاض غزة موردا قيّما، إذا أُعيد تدويرها في بناء الطرق والموانئ، أو حتى الجزر البحرية، كجزء من مشاريع إعادة إعمار مبتكرة. ويمكن أن تُساهم هذه الكمية الهائلة من المواد في بناء غزة المستقبل.

ويُمثّل توفير السكن لجميع الفلسطينيين المُهجّرين تحديا آخر خلال فترة إعادة الإعمار. مع تضرر أو تدمير معظم المساكن، يعيش سكان غزة حاليًا في ملاجئ مؤقتة على الشاطئ، ومدارس مُعاد استخدامها، وأطلال منازلهم، قد يحتاج ما يصل إلى 1.5 مليون فلسطيني إلى مأوى مؤقت - بمبانٍ آمنة مقاومة للعوامل الجوية، ومياه، وكهرباء - ريثما يُعاد بناء منازلهم الدائمة.

وغالبا ما يكون الخيار المعتاد في مناطق ما بعد النزاع هو إنشاء مخيمات خيام يُفترض أن تدوم لأشهر، ولكنها في الواقع تتحول إلى مدن دائمة. كان ثلث اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لا يزالون يعيشون في مخيمات في الشرق الأوسط أُنشئت بعد عامي 1948 و1967 عندما اندلعت الحرب في أكتوبر 2023.

وتطرح كولبرتسون خيار تطوير مساكن مؤقتة مصممة على أنه يمثل النهج الأفضل في تجنب التخييم طويل الأمد. نظرا لعدد الأشخاص المعنيين، حيث إن المخيمات أمر لا مفر منه، لذا يقترح تقرير مؤسسة راند إنشاء مخيمات مُصممة خصيصا "مستقبلية التوجه" يمكن أن تتطور إلى أحياء. ستضم هذه المخيمات خيامًا ومساكن متنقلة موزعة على أحياء سكنية، حيث يمكن بناء منازل دائمة لاحقا، مع توفير وسائل النقل والمرافق اللازمة للمدن المجاورة.

كما ويتضمن ذلك أيضا إعادة تأهيل الأحياء الصالحة للسكن جزئيًا حتى تتمكن العائلات من العيش فيها أثناء عملية إعادة الإعمار التي تجري من حولها تدريجيًا. أما في مناطق أخرى، فالدمار شامل، ويجب هدم كل شيء وإعادة بنائه بالكامل، غالبا من خلال عقود مع شركات إنشاءات دولية كبيرة.

رفض دخول مواد البناء سيزيد غزة فقرًا
أما المواد نفسها فأنها تُشكّل معضلة أخرى بحسب كولبرتسون ، فلسنوات، عانى اقتصاد غزة من قيود صارمة على الاستخدام المزدوج، وحدّت من الوصول إلى مواد اعتبرتها إسرائيل قابلة للاستخدام لأغراض عسكرية، بما في ذلك الخرسانة والأخشاب وأنظمة تنقية المياه، لذا يجب أن تتضمن مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب إعادة نظر جادة في هذه السياسة، التي دمّرت قطاع البناء في غزة، حيث إن رفض السماح بمواد البناء الأساسية لن يؤدي إلا إلى ضمان فقر غزة المدقع، وبالتالي جولة أخرى من العنف في المستقبل.

لا يقل أهمية عن ذلك كيفية تمويل وإدارة إعادة الإعمار. من المتوقع أن تتدفق مليارات الدولارات من أموال المانحين والاستثمارات الخاصة إلى غزة قريبًا، لكن المال وحده لا يضمن النجاح، ولا يمكن لغزة تحمّل تمويل يصل بوتيرة أسرع من قدرة آليات الإدارة على استيعابه. ففي كثير من الأحيان في الماضي، أعاقت الإدارة غير الكافية، التعافي بعد النزاع. وأشار تقرير عسكري حديث إلى عوامل عديدة وراء فشل الاستثمار الأمريكي في أفغانستان، والذي بلغ 145 مليار دولار، بما في ذلك هياكل رقابية لم تمنع تفشي الفساد.

والأهم في نهاية المطاف هو الحوكمة، أي وجود هياكل إدارية قادرة على تحديد أولويات المشاريع، ودمج القرارات المحلية مع الخبرات الدولية، والإشراف على المشاريع الرأسمالية الضخمة، وتنسيق جهود المانحين، وضمان شفافية تدفقات الأموال. وستحتاج غزة إلى أنظمة تقنية أثبتت فعاليتها، بما في ذلك منصات موحدة لتنسيق جهود المانحين، كتلك التي طورها الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا.

إعمار غزة يتطلب قوة عاملة كبيرة من ذوي المهارات
وأخيرًا، ستتطلب إعادة إعمار غزة قوة عاملة كبيرة من ذوي المهارات، تضم مهندسين وعمال بناء ومحاسبين ومخططين. فقد استُنزفت القدرة العمالية في غزة جراء الحرب؛ حيث قُتل أو أُصيب آلاف الرجال في سن العمل، ولا تزال مشاركة المرأة في سوق العمل منخفضة. وتُظهر تجارب التعافي الأخرى مدى خطورة الاستهانة بهذه المشكلة. فقد تباطأت عملية إعادة إعمار جزر فيرجن الأمريكية بعد الأعاصير لسنوات بسبب نقص العمالة الماهرة وعدم توفر مساكن لمن يستطيعون الانتقال للمساعدة.

لتجنب شلل مماثل، ستحتاج غزة إلى برامج تدريب مهني لتأهيل الفلسطينيين لأعمال إعادة الإعمار. كما ستحتاج إلى استقدام عمالة دولية، تُدار عبر عقود واسعة النطاق، مع توفير أماكن إقامة للعمال الأجانب في مناطق قريبة، مثل مصر عبر الحدود.

إن إعادة الإعمار المادي ليست سوى جزء واحد من التعافي؛ إذ يجب أن يصاحبه تأهيل اجتماعي ومؤسسي. ولن يتقدم الإعمار دون أمن مستدام واستقرار سياسي. فوقف إطلاق النار قد ينهار، وقد تتضاءل رغبة المانحين في المساعدة، وقد تندلع التوترات الإقليمية. كما لا ينبغي للمخططين الاستهانة بالبعد الإنساني: فالصدمات النفسية واسعة الانتشار، والإعاقات الجسدية الناجمة عن الإصابات، وفقدان التماسك الاجتماعي، وانعدام الثقة بعد سنوات من الحرب، كلها عوائق جدية أمام التعافي.

العام المقبل سيحدد ما إذا كان تعافي غزة سيبدأ أم سيبقى عالقًا
ومع ذلك، يُظهر التاريخ أن الدول والمدن التي دمرتها الحرب، من برلين إلى مدينة هو تشي منه إلى بيروت، قادرة على إعادة البناء، بل والازدهار، إذا ما توفر لها الوقت والنهج الصحيح، وبالتالي سيحدد العام المقبل ما إذا كان تعافي غزة سيبدأ على أسس واقعية أم سيبقى عالقًا في مستنقع. يكمن الفرق في التفاصيل، بدءًا من خطط القوى العاملة وصولا إلى التنسيق المؤسسي. قد تبدو هذه الأمور تقنية، لكنها أساس السلام والازدهار. إن إهمالها سيقضي حتى على أكثر الجهود الدولية سخاء. في المقابل، قد يمنح إتقانها الفلسطينيين ما افتقدوه لعقود: ليس مجرد إغاثة مؤقتة، بل فرصة حقيقية لإعادة البناء والبقاء في وطنهم.
التعليقات (0)