ملفات وتقارير

ما بين ابتزاز أمريكا وتهديدات روسيا.. هل تنجح أوروبا في تأسيس جيش خاص بها؟

بحسب استطلاع رأي فإن غالبية فرنسا وألمانيا تؤيد الخدمة العسكرية فيما ينقسم الإيطاليون والبريطانيون بشأنها ويعارضها الإسبان- الأناضول
بحسب استطلاع رأي فإن غالبية فرنسا وألمانيا تؤيد الخدمة العسكرية فيما ينقسم الإيطاليون والبريطانيون بشأنها ويعارضها الإسبان- الأناضول
شارك الخبر
مع تصاعد التهديدات الروسية وتحولات البيئة الاستراتيجية العالمية، تبرز لدى أوروبا الحاجة إلى صياغة معادلة الأمن القاري التي ارتكزت لعقود على القيادة العسكرية الأمريكية داخل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ولعل إعلان رومانيا مؤخراً عن انسحاب نحو 700 جندي أمريكي من حدودها يعكس بداية تحوّل في نَظْرَة واشنطن إلى التزاماتها الأوروبية، حيث كانت تلك القوى جزءًا من تعزيزات أمريكية بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا.

تدرس اليوم دول أوروبية عديدة إعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية لتعزيز قدراتها الدفاعية في مواجهة أي عدوان روسي، مدفوعة بخشيتها من احتمال فك الولايات المتحدة ارتباطها الدفاعي، ويرى الباحث في معهد كاتو بنيامين جيلتنر، أن القارة الأوروبية لم تعد تملك رَفَاهيَة الاعتماد على مظلة واشنطن، بل أصبحت مطالبة بصياغة عقيدة دفاعية أوروبية صلبة تحصّن حدود الناتو من الأطماع الروسية.

اظهار أخبار متعلقة


ترامب يبتز دول الناتو
وفي كانون الثاني/ يناير الماضي، طالب الرئيس ترامب مجددًا زيادة دول الناتو الإنفاق الدفاعي إلى 5 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي، قائلًا: "في السابق، كان الإنفاق المستهدف 2 بالمئة، ومعظم الدول لم تكن تسدد حتى هذا المبلغ. قبل أن آتي وأصر على الدفع، كانت الولايات المتحدة تغطي الفرق فعليا. لكن ذلك غير عادل تجاه الولايات المتحدة، مثل العديد من الأمور الأخرى التي حدثت على مر السنين"، وهي نسبة سخر منها بعض المسؤولين في الاتحاد الأوروبي لدرجة قولهم إنها كافية لتوفير الحماية لكندا أيضا وليس أوروبا فحسب.


القارة العجوز تعاني الـ"تشرذم الدفاعي"
برزت فكرة إنشاء جيش أوروبي، منذ الحرب الباردة، ثم عادت مناقشة المقترح في التسعينيات مع تشكيل الاتحاد الأوروبي، لكنها فقدت الزخم بسبب معارضة الولايات المتحدة والتزام الاتحاد بحلف الناتو، وعلى الرغم من منطقية الفكرة من حيث المبدأ، إلا أنها لم تكن عملية بسبب التكلفة المالية العالية وغياب رؤية استراتيجية موحدة تحدد أهداف الدفاع الجماعي وتُخرج القارة التي تعاني من "تشرذم دفاعي" تاريخي من حالة التبعية الأمنية، فأوروبا على الورق تضم ما يقرب من مليوني فرد في الزي العسكري، وتنفق نحو 338 مليار دولار سنويًا على الدفاع، وقد صُمِّمت هذه الجيوش لخدمة المصالح الضيقة، لا للدفاع عن الكتلة ككل.

"نكون أو أن لا نكون"
لخّص رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو المعضلة التي تواجهها أوروبا في ظلّ تهديد الرئيس ترامب بالانسحاب من الترتيبات الأمنية التي قادتها واشنطن في القارة على مرّ عقود، باقتباس من مسرحية هاملت، قائلا: "نكون أو أن لا نكون"، فيما يضغط رئيس روسيا فلاديمير بوتين ليحقق مكاسبَ في محادثات لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، غُيبت عنها أوروبا، في خضمّ ذلك كله، تتصاعد الهجمات الإلكترونية والتهديدات التي تستهدف البنية التحتية الحيوية، من إيطاليا حتى آيسلندا، كما يمكن أيضًا التعبير عن هذه المعضلة بطريقة أخرى وهي "إما زيادة الإنفاق العسكري، أو أن يندثر اتحاد أوروبا ليكون أثرًا بعد عين".

نفقات لجيشهم الخاص "لا لجيش غريب"
وفي وقت سابق، كشفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن خطة لإعادة تسليح دول الاتحاد الأوروبي، مشيرة إلى أن الخطة تتضمن استثمارات أوروبية في المجمع الصناعي العسكري الأوكراني، وتقدمت فون دير لاين باقتراح لجمع 800 مليار يورو على مدى أربع سنوات لتمويل إعادة التسليح، معتمدة بشكل أساسي على ميزانيات دول الاتحاد، إلا أن صحيفة "أرغومينتي آي فاكتي"، كشفت أن الاتحاد الأوروبي يريد إنشاء جيش خاص به لكون دول الاتحاد لا ترغب في زيادة تمويل قواعد حلف الناتو وعديد وحداته، حيث يرون أن من الأفضل تخصيص النفقات لجيشهم وليس لجيش غريب، من جهته، قال موقع بوليتيكو إن تعزيز القوات المسلحة في القارة الأوروبية لمواجهة التهديدات الروسية المحتملة، يواجه العديد من التحديات، بما في ذلك العثور على الأموال الكافية وكسب دعم الجيل الأصغر سنا

الشباب الأوروبي متردد
بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، كانت ليتوانيا أول من أعاد فرض الخدمة العسكرية الإلزامية، وتلتها السويد ثم لاتفيا بعد أن شنت روسيا حربها على أوكرانيا عام 2022، كما اختارت هولندا وبلغاريا وبلجيكا وألمانيا وبولندا ورومانيا أيضًا خططًا تطوعية، وبحسب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن الخدمة العسكرية التطوعية يمكن أن تكون أداة لتعزيز التجنيد، لكنها تشير إلى أن المزايا والمعاشات التقاعدية التنافسية قد تشكل أيضًا عقبة أساسية".

كما أن هناك مشكلة أخرى، تتمثل في إشراك الشباب بهذه العملية، حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مؤخرًا أنه في حين تؤيد أغلبية الأوروبيين إعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية، فإن الشباب الأوروبي ــ الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما ــ مترددون تمامًا ، حتى في البلدان الواقعة في الخطوط الأمامية مع روسيا مثل بولندا ورومانيا. 

وقال باناجيوتيس بوليتيس لامبرو، وهو زميل باحث في مؤسسات وسياسات الاتحاد الأوروبي في المؤسسة اليونانية للسياسة الأوروبية والخارجية، إنه بالنسبة لصناع القرار، من الأهمية بمكان إثبات أن مجتمعاتهم معرضة للخطر، وأضاف قائلًا: "يجب أن تكون الرسالة الموجهة إلى الجَمهور، أن الأمر يتعلق بحماية أسلوب حياتنا، وأن عدم الاستعداد يُعرّضنا للخطر"، كما شدد على أن أحد أهم التحديات هو قدرة الحكومات على إقناع شعوبها بضرورة التجنيد الإجباري في الوقت الحاضر".

أوروبا الغربية أقل تأييدًا
مع ارتفع التأييد الشعبي للخدمة الوطنية بشكل حاد، لا سيما في دول الشمال الأوروبي ودول البلطيق، لكن في أوروبا الغربية، بعيدًا عن التهديد الوجودي الذي تشكله روسيا، فإن الوضع يعد أكثر تعقيدًا، ففي فنلندا، التي تشترك مع روسيا في حدود بطول 1300 كيلومتر، وصل التأييد للدفاع عن الوطن إلى مستويات قياسية، حيث أيد في عام 2022، ما نسبته 83 بالمئة من الفنلنديين الدفاع عن بلدهم، مقابل 65 بالمئة في عام 2020، وفقًا لاستطلاعات الرأي السنوية التي تُجريها البلاد.

اظهار أخبار متعلقة


وفي بلدان أخرى غرب وجنوب أوروبا، كانت المحادثات الوطنية حول الخدمة العسكرية متقطعة ثم اختفت بسرعة، وفي المملكة المتحدة، حيث قال ثلث الناس فقط إنهم على استعداد للذهاب إلى الحرب من أجل بريطانيا، اقترح رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك لفترة وجيزة إعادة تقديم الخدمة الوطنية في عام 2024 قبل أن تسحقه حكومة حزب العمال الحالية، وفي إسبانيا، الدولة التي تعرضت لانتقادات بسبب رفضها الانضمام إلى أهداف الإنفاق الجديدة لحلف شمال الأطلسي، قالت وزيرة الدفاع مارغريتا روبليس العام الماضي إن إحياء الخدمة العسكرية "لم يخطر ببال أحد" داخل الحكومة اليسارية في البلاد، وفي ألمانيا، سيتقاضى المتطوعون 2600 يورو شهريًا، وهو راتبٌ يُعتبر مغريًا لدرجة أن القطاع الخاص يخشى أن يؤدي إلى هجرة جماعية نحو الخدمة العسكرية.

من جهتها، قالت كاترين ويستغارد، من مركز أبحاث المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن: "جوهر المشكلة هذه الأيام هو أن الدول التي تتشارك حدودًا مع روسيا تشعر بالتهديد بشكل أكثر حدة من غيرها، التي تشعر بحماية موقعها الجغرافي"، وأضافت: "لقد تعاملت فنلندا ودول البلطيق والنرويج والسويد والدنمارك مع هذا التحدي لفترة أطول. هناك تردد أكبر في دول مثل ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا، وللجغرافيا والثقافة دور في ذلك".

ماكرون يعيد الخدمة العسكرية
كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون النقاب عن خطة جديدة تسمح للشبان بالخدمة العسكرية بشكل طوعي اعتبارًا من منتصف عام 2026، والتي من شأنها أن تساعد فرنسا على مواجهة ما وصفها بـ"التهديدات المتسارعة" على الساحة العالمية. وسيبدأ اختيار المرشحين تدريجيًا مطلع كانون الأول/ يناير المقبل، على أن ينطلق البرنامج بشكل موسع في صيف العام نفسه.


وقال ماكرون خلال خطاب ألقاه أمام أحد ألوية المشاة بمنطقة جبال الألب الفرنسية "لا يمكن لفرنسا أن تبقى مكتوفة الأيدي"، وأوضح أن الخطة "مستوحاة من ممارسات شركائنا الأوروبيين... في الوقت الذي يتقدم فيه جميع حلفائنا الأوروبيين ردا على تهديد يواجهنا جميعا"، وأضاف أن الخدمة الطوعية ستكون مفتوحة لمن هم في سن 18 و19 عاما، وستكون مقابل أجر ومدتها 10 أشهر.


وقال ماكرون "طموحي بالنسبة لفرنسا هو الوصول إلى 50 ألف متطوع بحلول عام 2035، اعتمادًا على تطور التهديدات"، وتابع أنه بعد انتهاء البرنامج، يمكن للمشاركين الاندماج في الحياة المدنية أو أن يصبحوا جنود احتياط أو البقاء في القوات المسلحة، وتتوقع الخطة تطوع ثلاثة آلاف شخص في عام 2026، والذين سيخدمون على الأراضي الفرنسية فقط، وأن يرتفع العدد إلى عشرة آلاف بحلول عام 2030.

"التاريخ سيكرر نفسه"
المحلل البريطاني ألكسندر مركوريس، أكد أن خطة إعادة تسليح أوروبا تعاني من عيب جوهري يجعل فشلها حتميا، وأن الاعتقاد بأنها ستنفق المليارات على الدفاع خلال السنوات المقبلة "وهم كبير"، وقال مركوريس: "كل من يعتقد أن أوروبا ستنفق 800 مليار يورو على الدفاع في السنوات المقبلة واهم للغاية، هذه الأموال ستتبخر في مشاريع غير واضحة أو مدفوعات الديون، سيكرر التاريخ ما حدث مع صندوق التعافي من جائحة كوفيد-19، حيث تم توجيه الأموال إلى كل شيء إلا التعافي الفعلي"، وأشار المحلل إلى أن المشكلة الكارثية التي يتجاهلها الجميع في أوروبا هي عدم وجود قاعدة صناعية قادرة على دعم عملية إعادة التسليح، مستشهدا بحالة القلق لدى المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي من جرّاءِ تراجع ترامب عن فرض العقوبات على روسيا وتجاهل الطائراتالمسيرة فوق أجواء أوروبا.



"فرض القيود العسكرية شبه مستحيل"
تظهر الدراسات بحسب تقرير لشبكة "دويتشه فيله" الألمانية، أن العديد من الأوروبيين غير مستعدين للدفاع عن بلدانهم في ساحة المعركة، وتوضح الخبيرة الفرنسية بينيديكت شيرون التي تدرس الروابط بين المجتمع والقوات المسلحة "في مجتمع ليبرالي، أصبح فرض القيود العسكرية شبه مستحيل".

وتضيف: "ما دام لا يوجد غزو، فإن تقبّل التكاليف السياسية لمعاقبة الرافضين للاستدعاء، يبدو أمرا لا يمكن تصوّره"، حيث ألغت معظم الدول الأوروبية التجنيد الإجباري بعد الحرب الباردة، باستثناء تسع دول لم تعلّقه بتاتًا وهي اليونان، قبرص، النمسا، سويسرا، الدنمارك، إستونيا، فنلندا، النروج، وتركيا، وأعادت ليتوانيا العمل بالتجنيد الإجباري في 2015، بعد عام من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في جنوب أوكرانيا.

اظهار أخبار متعلقة


وحذت السويد حذوها عام2017، ولاتفيا عام 2023، ولكن نظرا للتكاليف السياسية والاقتصادية، لا تعتزم معظم الدول الأوروبية الخمس الأكثر إنفاقًا في حلف شمال الأطلسي، أي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا وبولندا، لجعل الالتحاق بالقوات المسلحة إلزاميًا، وأعلنت بولندا التي ألغت التجنيد الإجباري في عام 2008، مؤخرًا عن خطط لتقديم تدريب عسكري لمئة ألف مدني سنويًا، بدءًا من 2027. وسيكون هذا البرنامج طوعيًا، بينما تخطط السلطات لاعتماد نظام "دوافع وحوافز"، بحسب رئيس الوزراء دونالد توسك.
التعليقات (0)

خبر عاجل