بنهاية الحرب الباردة، صعد إلى سطح العلاقات الدولية مفهوم جديد يتجلى في استخدام أدوات الإقناع والاستمالة وليس الضغط والإكراه في إدارة العلاقات الخارجية، ولم تعد القوتان العسكرية والاقتصادية هما الأداتان الوحيدتان لقياس النفوذ، وبرزت "القوة الناعمة" كحقل حاسم للمنافسة بين الدول.
وفي قلب هذا الحقل يقف
التعليم كأحد أقوى أدوات بناء التأثير؛ فهو لا يجذب العقول فقط، بل يصنع شبكات من الخريجين الموالين، ويصدر القيم والثقافة، ويشكل الصورة الذهنية للدول على المدى الطويل.
وفي ظل المتغيرات التي تشهدها المنطقة،كان علينا أن نتساءل: كيف تستخدم ثلاث قوى متفاوتة التأثير - الولايات المتحدة كقوة عالمية، وتركيا كقوة إقليمية صاعدة، ومصر كقوة تقليدية – التعليم في معركة النفوذ هذه؟ وما هي انعكاسات هذا التنافس على الخريطة الثقافية والسياسية في المنطقة؟.
مفهوم القوة الناعمة
بدأ "جوزيف ناي" أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد بمشاركة زميله "روبرت كيوهين" التفكير عام 1977 في تناول فكرة خلق مساحة التأثير والنفوذ عبر توظيف أدوات متنوعة للقوة.
طورها "كيوهين" في الاتجاه الاقتصادي السياسي والمتمثل في المنح الاقتصادية، بينما اهتم "جوزيف ناي" بالإعلام والتعليم وبناء النموذج الثقافي للدولة للتأثير في الفاعلين الآخرين، ودفعهم لتبني سياسات تخدم مصالحها.
ومن رؤية "ناي" للقوة الناعمة، وتعريف "ستيفن لوكس" لها في كتابه "القوة: رؤية راديكالية" والذي عرفها فيه بأنها "القدرة على تحديد الأجندة، وتوجيه دفة العلاقات الدولية، والتأثير النهائي في صياغة أطراف مختلفة لأهدافها"، سننطلق لدراسة الحالات الثلاث.
تركيا: هندسة النفوذ عبر الفصل الدراسي
صعد حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا عبر الانتخابات بأجندة واضحة المعالم تقوم على تصفير مشاكل الدولة التركية، وتحويلها إلى قوة إقليمية فاعلة معتمدًا على الروابط الثقافية والدينية والعرقية. فتركيا تربطها بالدول العربية أواصر الدين، وبالمحيط البلقاني أواصر بعضها عرقي وبعضها ديني، وكان لا بد من استخدام القوى الناعمة لتفعيل هذه الأجندة وعلى رأسها التعليم.
اظهار أخبار متعلقة
فعندما يدرس الطلاب في الخارج في بلد ما، فإنهم يعيشون تجربة ثقافية جديدة عن قرب، ويكوّنون علاقات شخصية تكسبهم رؤى وأفكارًا مختلفة، وعادة ما تبهرهم تلك التجارب فيعودون كسفراء غير رسميين لبلدانهم وينقلون انطباعات إيجابية عن البلد المضيف، مما يعزز التفاهم المتبادل ويقلل من الصور النمطية. كما أن شبكات الخريجين من
الجامعات الدولية تخلق روابط دبلوماسية وإنسانية دائمة.
آليات عمل القوة الناعمة التعليمية التركية:
تعتمد تركيا في تفعيل قوتها التعليمية الناعمة على ثلاث آليات وهي: المنح التركية، ومعاهد يونس إيمري المنتشرة حول العالم، وأخيرًا الجامعات الدولية التي شهدت طفرة في الحقبة الأخيرة في تركيا:
أولاً: المنح التركية (Türkiye Bursları):
في مقاله المنشور عام 2019، يرى الكاتب والمحلل السياسي زكريا قورش أن المنح التركية التي طورتها رئاسة شؤون الأتراك وذوي القربى في الخارج هي أحد أهم نقاط القوة التعليمية الناعمة لتركيا. فوفقًا لإحصائية عرضها في المقال، فإن عدد الطلاب الذين يدرسون خارج بلدانهم يصل إلى 8 ملايين طالب، ومن المتوقع أن يتجاوز الرقم 20 مليونًا بحلول العشرينات.
ويرى الكاتب أن جيلًا سينشأ متشربًا عقلية الدول التي تعلم فيها، ومن الطبيعي أن تسعى تركيا عبر المنح إلى الحصول على نصيبها من هذا الجيل الذي سيسهم في بناء مستقبل بلاده، مما يعني تعزيز العلاقة بين البناة الجدد والدول التي تعلموا فيها ويقوى الروابط ونفوذ تلك الدول.
وفي تصريح لـ"عربي21" يرى عميد كلية هندسة المعلومات جامعة إدلب، الدكتور مصعب شبيب، أن الطالب حين يدرس بدولة أخرى عادة ما ينقل المعارف التي اكتسبها من دراسته وهو شيء جيد لكنه أيضا ينقل قيما لا تخدم مجتمعه، فمن خلال دراسة الطالب في بيئات مختلفة تتشكل لديه منظومة قيمية جديدة بعضها يسهم في تطوير المؤسسات التعليمية ونظم الإدارة ويرفع كفاءة الأداء وبناء
ثقافة مهنية راقية.
ولكن التحدي الأساسي بحسب شبيب، هو كيفية تخليصه من الشعور بالاغتراب وضعف الانتماء للوطن الأم، خصوصا أولئك الذين ينفصلون عن جذورهم خلال فترة الدراسة، فيجدون صعوبة في اندماجهم في مجتمعاتهم، وعادة ما يكون ولائهم الأكبر للثقافة المكتسبة من دولة الدراسة.
ثانيًا: معاهد يونس إيمري (Yunus Emre Institute):
في عام 2001، وبمناسبة افتتاح معهد يونس إيمري، قال الرئيس التركي آنذاك عبد الله جول: "إذا كانت الدول الكبرى موجودة اليوم، فإن ذلك يعود إلى دبلوماسيتها، وعلى وجه الخصوص إلى تراثها الثقافي، ويجب علينا إحياء لغتنا ونشرها". هذه المعاهد منتشرة في عشرات العواصم العالمية وبلغ عددها 48 معهدًا ومركزًا ثقافيًا لتغذية الاستراتيجية التعليمية ونشر اللغة التركية التي هي بوابة فهم الثقافة وتعزيز الانتماء.
ثالثًا: الجامعات الدولية:
شهدت تركيا طفرة في إنشاء جامعات ذات برامج باللغة الإنجليزية وجودة متصاعدة. موقعها الجيوسراتيجي وتكاليفها المعقولة مقارنة بأوروبا، فضلاً عن دخول 9 جامعات تركية ضمن أفضل 1000 جامعة في العالم، جعلتها خيارًا جذابًا للطلاب العرب الباحثين عن جودة مقبولة وقرب ثقافي.
تكمن قوة النموذج التركي في وضوح استراتيجيته الخارجية، وذكاء استهدافه الديموغرافي، وقدرته على استغلال الفراغ النسبي الذي تركته النماذج التعليمية التقليدية في المنطقة، حيث توجه المنح الدراسية بشكل استراتيجي نحو الطلاب الواعدين في الدول النامية، وخاصة في إفريقيا وآسيا، والدول العربية، ولا سيما
مصر وسوريا، والمناطق ذات الروابط التاريخية والثقافية مع تركيا، مثل دول البلقان وآسيا الوسطى. هذا لا يضمن بناء شبكات من الخريجين الموالين فحسب، بل يعزز أيضًا الروابط الثقافية واللغوية على المدى الطويل، مما يوسّع دائرة النفوذ التركي في هذه المناطق الحيوية.
ويرى المدير التنفيذي لشركة Study Go للاستشارات التعليمية بتركيا، إبراهيم إسماعيل، أن الجامعات في تركيا في تطور مستمر، ولكن ما زال الإقبال على الدراسة في تركيا من دول بها مشاكل سياسية أو حروب، نظرا لصعوبة دراسة أبناء تلك البلدان في دول أوروبا للتكاليف الباهظة، وأيضا لصعوبة الحصول على تأشيرة البلدان الأوروبية.
ولفت إسماعيل "لكننا أحيانا نجد إقبال من جنسيات دون أخرى فهذا العام ورغم تصريحات السفير التركي في مصر عن رغبة تركيا في زيادة تقدر ب 20000 طالب مصري في الجامعات الأوربية إلا أننا لاحظنا أن أبناء تركمانستان هم الأكثر بل مكتسحين في نسبة الإقبال على الجامعات التركية، وهناك زيادة بنسبة من 19 إلى 20% في عدد الطلاب المصريين وكان عددهم في 2024 تقريبا 25 ألف طالب.
مصر: إرث الريادة وتحديات الواقع
بالرغم من التراجع الإقليمي ووصول مصر لمرحلة من الانحدار غير المسبوقة تاريخيًا كما يتجلى ذلك في احتلالها المرتبة 109 من أصل 121 دولة في مؤشر جودة التعليم العالمي لعام 2023،فلا يمكن أن نخرجها من المنافسة في مضمار القوة الناعمة التعليمية على الأقل، فما زالت مصر تمتلك رصيدًا ولو بقوة الدفع الذاتي، لكنه رصيد يعاني من فجوة بين إمكانيات الماضي وإشكاليات الحاضر.
عصر الريادة: عندما كانت مصر "أم الدنيا" التعليمية
لعقودٍ طويلة، كانت مصر القبلة التعليمية الأولى للعالم العربي. جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية كانت تخرّج النخب السياسية والفكرية للدول العربية، حيث تخرّج من جامعة القاهرة وحدها عددٌ كبير من قادة المنطقة، مثل ياسر عرفات (فلسطين)، وحسن الترابي (السودان)، وصدام حسين (العراق)، بالإضافة إلى مئات الوزراء والمفكرين.
وكان الأزهر الشريف منارةً عالميةً للعلم الإسلامي الوسطي، يجذب الطلاب من شرق آسيا إلى غرب أفريقيا. فقد استقبل الأزهر منذ أربعينيات القرن الماضي أبناء ملوك وآباء مؤسسين لدول مثل إندونيسيا وماليزيا وتشاد.
ودعم هذه الهيمنة إعلامٌ مصريٌّ قوي وموقعٌ رياديٌّ في السياسة الإقليمية، متمثّلًا في إذاعة صوت العرب، وإنتاجٍ ضخمٍ من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التي غزت المنطقة."
اظهار أخبار متعلقة
وبتطبيق منطق "الأجندة" الذي قدمناه في الحالة التركية، نجد أن مصر تخوض المنافسة على كعكة التعليم الدولي دون أجندة واضحة. فالأجندة التي حددها عبد الناصر في الستينات من القرن الماضي والتي تمثلت في تصدير الفكر الثوري والمد العروبي - بغض النظر عن تقييمها - لم يعد لها مكان اليوم، وتَبعثَر الجهد المصري بين الأزهر ووزارة التعليم العالي دون رؤية تسويقية عصرية موحدة.
لماذا تراجعت هذه المكانة؟
تعاني مصر من انهيار نوعي يتمثل في تكدس الفصول بالطلاب، وتراجع ميزانيات البحث العلمي، وتدني أجور الأساتذة في كل المراحل التعليمية، مما أفقد الجامعات المصرية مكانتها التنافسية. في ظل ذلك، خرجت تركيا كمنافس شرس قدّم نموذجًا حديثًا ومدعومًا، بينما استقطبت دول الخليج العقول بجامعاتها العالمية وبنيتها التحتية.
من جانبه، يؤكد الخبير التربوي والتعليمي، علي اللبان ، أن مصر فقدت قوتها الناعمة وتراجعت الى المكانة 39 من 120 دولة، وسبقتها العديد من الدول العربية بمراكز أكثر تقدما، بل واجهت تراجعا في مؤشرات نوعية وفاعلية التعليم، رغم وجود جامعات عريقة مثل القاهرة وعين شمس.
ورأى أن سيطرة جهاز الأمن الوطني على هذه الجامعات وتعيين رؤساء تابعين له، والسيطرة على اتحادات الطلاب وتكميم الأفواه جعلها تتراجع وأثر على جودة المناهج ومخرجات التعليم، وأثر بصورة أو بأخرى على الأبحاث العلمية وهناك ضعف واضح وملحوظ مقارنة بتركيا على سبيل المثال.
لم يختفِ تأثير مصر التعليمي، بل تحول من نموذج شامل إلى نموذج "متخصص". فبينما تراجعت مكانتها في الطب والهندسة، حافظ الأزهر على تأثيره كمرجعية دينية، وظلت برامج تعليم اللغة العربية نقطة قوة. التحدي هو في إعادة تأهيل التعليم العام واستغلال هذا التخصص بشكل استراتيجي.
الولايات المتحدة: صناعة الولاء عبر التفوق الأكاديمي
وفقًا لـ"ستيفن لوكس" والقائمة على "القدرة على تحديد الأجندة وتوجيه دفة العلاقات الدولية"، فقد استخدمت الولايات المتحدة التعليم كقوة ناعمة انطلاقًا من سعي واشنطن لاستمالة نخب الجماهير والترويج لقيم الليبرالية، والتجنيد الفكري للنخب المثقفة.
جدير بالذكر أن محاولة الأمريكيين لامتلاك قوة ناعمة كانت في العام 1936، حين اقترح الوفد الأمريكي في مؤتمر بيونس آيرس لحفظ السلم إبرام اتفاقية للنهوض بالعلاقات الثقافية الأمريكية، ونتيجة لذلك تم اعتماد برامج تبادل المدرسين والطلبة وتشجيع التعاون بين المنظمات الشبابية والطلابية، كل ذلك بهدف تحسين صورة أمريكا في الخارج.
اظهار أخبار متعلقة
وقد كانت وما تزال برامج التبادل التعليمي والثقافي الدولية أحد أهم وسائل الإدارات المتعاقبة التي تستخدم التعليم كقوة ناعمة قائمة على صناعة التبعية المباشرة والولاء عبر التفوق. وفي سبيل الوصول إلى هذا الأثر، اعتمدت أمريكا آليات عمل للقوة الناعمة التعليمية تتلخص في:
الآلية الأولى: هيمنة الجامعات المرموقة والمعروفة بجامعات الـ "Ivy League" وغيرها من الجامعات البحثية العملاقة واحتلالها قمة التصنيفات العالمية، فضلاً عن الانتقائية الشديدة وعدم قبولها أكثر من 10% من المتقدمين للدراسة سنويًا، مما يجعل حصول الطالب على درجة علمية أمريكية حلمًا وعلامة تميز. فخريجو تلك الجامعات يشكلون نخبًا ومراكز قوى في بلدانهم (كساسة، وخبراء اقتصاد، وقضاة).
الآلية الثانية: برنامج فولبرايت للمنح والذي تأسس عام 1946، على يد السيناتور ج. وليام فولبرايت، بهدف التبادل الأكاديمي لتعزيز التبادل بين الشعب الأمريكي وغيره من الشعوب. وهو أحد أنجح أدوات القوة الناعمة، فصناعة النخب وجذب العقول الواعدة لأمريكا، فضلاً عن تغذيتهم بقيم وثقافة المجتمع الأمريكي، مما ساهم في بناء شبكة علاقات أمريكية عميقة داخل تلك النخب.
الآلية الثالثة: فخ جذب العقول والاحتفاظ بها عبر نظام "البطاقة الخضراء" والذي يتيح للطالب أن يبقى للعمل ويحرم بلاده من أي جهود بحثية، ومن أي مهارة اكتسبها وطورها خلال فترة دراسته لتصب في صالح الداخل الأمريكي.
تعتمد الولايات المتحدة على نموذج "الجاذبية العالمية" الذي يخلط بين التفوق الأكاديمي غير المسبوق والفرص المستقبلية، لبناء أقوى نظام للقوة الناعمة عبر التعليم في العالم. فهي لا تبيع للطالب مجرد "شهادة" بل تبيع له وعدًا بأفضل تعليم وأفضل فرصة مستقبلية، كما تبيع له وعدًا بإمكانية الانتماء للمجتمع الأمريكي. هذا المزيج الفريد هو ما يجعل التعليم الأمريكي أقوى أداة للقوة الناعمة في العالم، حيث لا يقتصر على التأثير الثقافي المؤقت، بل يستثمر في رأس المال البشري العالمي ويوجهه لخدمة استمرارية الريادة الأمريكية على المدى الطويل.
يشير التنافس على القوة الناعمة عبر التعليم إلى تحول أعمق في النظام الدولي. فبينما تظل الولايات المتحدة القطب الأقوى، تعيد تركيا صياغة أدوات النفوذ في المنطقة باستثمار ذكي ومباشر في رأس المال البشري.
وفي المقابل، تواجه مصر معضلة حقيقية: إما أن تطلق عملية إصلاح جريئة لنظامها التعليمي وتستعيد دورها من خلال التميز بدلاً من الاكتفاء بالكم، أو أن يقتصر تأثيرها على المجال الديني واللغوي المتخصص.