اقتصاد عربي

العراق يخطط لإنهاء اعتماده على غاز إيران.. "مشاريع استثمارية"

تحول العراق من مستورد إلى منتج مكتفٍ بالغاز سيُعيد رسم موازين الطاقة في المنطقة- جيتي
تحول العراق من مستورد إلى منتج مكتفٍ بالغاز سيُعيد رسم موازين الطاقة في المنطقة- جيتي
يعتمد العراق تاريخيا على الغاز الإيراني لتشغيل نحو ثلث الطاقة الكهربائية، مع تكبد خسائر مالية تصل إلى حوالي أربعة مليارات دولار سنويا نتيجة الاستيراد وحرق الغاز المصاحب.

ويأتي توجه الحكومة لبناء منظومة طاقة متكاملة تعتمد على الغاز المحلي والاستيراد من مصادر خليجية متنوعة كالغاز المسال وبلدان أخرى مثل قطر وعُمان، مع خطط لإنهاء الاعتماد الإيراني بشكل تدريجي.

وكشف رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، عن خطة طموحة تهدف إلى إنهاء اعتماد بلاده على الغاز الإيراني الذي تبلغ قيمته نحو أربعة مليارات دولار سنويا، ويأتي هذا التوجه ضمن مساعٍ أوسع لتنويع الاقتصاد العراقي المعتمد على النفط، ومعالجة أزمة الطاقة المستمرة التي تُعد من أبرز التحديات المزمنة في البلاد.

وقال السوداني، في مقابلة مع شبكة "سي إن بي سي" الأمريكية في بغداد الأربعاء إن الحكومة وضعت "رؤية واضحة لمعالجة الخلل الهيكلي الذي أثر على قدرة العراق في إنتاج وتوفير الكهرباء"، مؤكدا أن الخطة تشمل تطوير مشاريع الغاز المحلي والاستفادة من الغاز المصاحب للنفط بدلا من حرقه.

الاعتماد على الغاز الإيراني
يشكل الغاز الإيراني ركيزة أساسية في منظومة الطاقة العراقية، إذ اعتمدت بغداد على طهران لتأمين ما يقارب ثلث احتياجاتها من الكهرباء عبر استيراد الغاز المخصص لتشغيل محطات التوليد.

جاء هذا الاعتماد نتيجة تأخر مشاريع استثمار الغاز المحلي وضعف البنية التحتية لمعالجته، ما جعل العراق عرضة لأزمات متكررة مع كل توقف في الإمدادات الإيرانية بسبب الخلافات المالية أو العقوبات الدولية، ومع تراكم الديون وتذبذب الإمداد، تحول ملف الغاز إلى أحد أبرز مظاهر التداخل الاقتصادي بين البلدين، ومؤشر على هشاشة أمن الطاقة في العراق.

وتصل تكلفة الغاز المستورد من إيران إلى نحو أربعة مليارات دولار سنويا، بينما يعاني العراق من انقطاعات متكررة في الإمدادات الإيرانية، ما يضطر السكان إلى الاعتماد على المولدات الخاصة المكلفة والملوثة.

اظهار أخبار متعلقة



ويُعتبر الغاز الإيراني شريانا حيويا لقطاع الطاقة في العراق، كما يمثل في المقابل مصدرا ماليا مهما لطهران، التي حافظت على استمرار التصدير رغم النقص الحاد في الغاز والكهرباء داخل إيران خلال السنوات الأخيرة، بالاضافة الى العقوبات الأمريكية وتحذيرات للحكومة العراقية بمنع استيراد الغاز الإيراني.

قرار بغداد وخطط البدائل
جاء قرار بغداد بإنهاء اعتمادها على الغاز الإيراني بداية لتحول استراتيجي في إدارة ملف الطاقة، بعد سنوات من الأزمات والانقطاعات التي أثرت في استقرار شبكة الكهرباء وأرهقت الموازنة العامة.

وقد وضعت الحكومة العراقية خطة مفصلة تهدف إلى تحقيق الاكتفاء شبه الذاتي عبر استثمار الغاز المصاحب للنفط وتطوير الحقول غير المستغلة، إلى جانب توقيع عقود مع شركات دولية لتنفيذ مشاريع المعالجة والنقل.

وأكد السوداني أن حكومته وضعت للمرة الأولى في تاريخ العراق "برنامجا واضحا وإجراءات يومية" لحل أزمة الكهرباء عبر تطوير قدرات البلاد في إنتاج الغاز محليا.

وأشار إلى أن الحكومة حددت مطلع عام 2028 موعدا لتحقيق هدف "صفر حرق للغاز"، وهو ما يعني استغلال كل الغاز المصاحب للنفط في إنتاج الطاقة بدلا من إهداره بالحرق.

وأضاف أن بغداد وقعت عقودا مع شركات دولية كبرى مثل "توتال إنرجيز" الفرنسية، وشركات صينية وإماراتية، للاستثمار في مشاريع جمع ومعالجة الغاز.

وتبلغ قيمة الغاز المصاحب لاستخراج النفط في العراق ما بين أربعة إلى خمسة مليارات دولار سنويًا، وهو ما يعادل تقريبا الكمية نفسها التي يستوردها العراق من إيران.

ويحتل العراق المرتبة الثالثة عالميا في حرق الغاز بعد روسيا وإيران، إذ يحرق سنويا ما بين 17 إلى 18 مليار متر مكعب من الغاز المصاحب، وهي كمية تساوي تقريبا كامل استهلاكه المحلي من الغاز وأكثر من ضعف الكميات المستوردة من طهران.

مشاريع التطوير والبدائل الجديدة
وضمن التوجه الجديد، شرعت الحكومة العراقية في تنفيذ حزمة مشاريع استراتيجية لتطوير قطاع الغاز المحلي، وتشمل هذه المشاريع خططا لاستثمار الغاز المصاحب للنفط عبر شراكات مع شركات عالمية من فرنسا والإمارات والصين، إلى جانب التعاقد مع شركات أميركية مثل "شيفرون" و"إكسون موبيل" و"هاليبرتون" و"شلمبرجير".

كما أعلن السوداني عن توجه حكومته لاستيراد الغاز المسال من دول خليجية مثل قطر وسلطنة عمان، في إطار سياسة تنويع مصادر الطاقة، إضافة إلى خطط إنشاء منصات لاستقبال الغاز المسال ومراكز تخزين جديدة في محافظة البصرة والفاو على وجه الخصوص.

وبحسب تصريحات رئيس الوزراء، فإن هذه المشاريع ستوفر كميات كافية لتشغيل محطات الكهرباء وتحقيق الاكتفاء شبه الذاتي من الغاز خلال ثلاث سنوات، في حين تتوقع الحكومة إنهاء الاعتماد على الغاز الإيراني بشكل كامل بحلول عام 2028.

اظهار أخبار متعلقة



وفي السياق ذاته، يعمل العراق على تطوير حقول الغاز غير المستغلة، وفي مقدمتها حقل عكاس عكاز في محافظة الأنبار، الذي تُقدر احتياطاته بنحو 5.6 تريليون قدم مكعب، ويعد هذا الحقل من أبرز الموارد الاستراتيجية في البلاد، لدوره المتوقع في تلبية احتياجات السوق المحلية والتصدير لاحقا إلى الأسواق الإقليمية.

وتشير خطط وزارة النفط العراقية إلى أن المرحلة الأولى من تطوير الحقل تستهدف الوصول إلى إنتاج 100 مليون قدم مكعب يوميا خلال العامين المقبلين، وفق بيانات منصة الطاقة العالمية التي تتخذ من واشنطن مقرا لها.

وفي ذات السياق، منحت الحكومة العراقية رسميا عقدا للشركة الأمريكية "إكسيليريت إنرجي"، لتطوير محطة متكاملة عائمة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، حيث تعد خطوة حاسمة نحو تنويع مصادر الطاقة ودعم القطاع الكهربائي المحلي.

وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، ستسمح هذه المحطة العائمة، التي ستُبنى بالتنسيق مع السلطات العراقية، باستيراد الغاز الطبيعي المسال لتغذية محطات التوليد الكهربائي، مما يساهم في استقرار الشبكة الوطنية وتقليل الانقطاعات المتكررة التي يعاني منها المواطنون.

وأكدت الشركة، التي تُعد من الرواد في مجال بنية تحتية الغاز المسال، أنها تعمل حالياً على إنهاء التفاصيل التعاقدية مع الجهات المعنية في بغداد، مع التركيز على التنفيذ السريع لتلبية الاحتياجات الطارئة للعراق.

من جانبها، أعربت إكسيليريت إنرجي عن تفاؤلها بالشراكة، مشيرة إلى أن خبرتها في تشغيل أسطول من عشرة وحدات عائمة لتخزين وإعادة التسييل، والتي أجرت أكثر من 2700 عملية نقل غاز مسال مع أكثر من 50 مشغلا عالميا ستضمن نجاح المشروع.

الموقف الإيراني
يمثل تصدير الغاز إلى العراق أهمية خاصة للنظام الإيراني، الذي يعتمد على هذه الإيرادات كمصدر مهم جدا للعملة الصعبة في ظل العقوبات المفروضة عليه.

وخلال السنوات الماضية، واصلت إيران تصدير الغاز والكهرباء إلى العراق حتى في أوقات النقص في التجهيز الداخلي، حيث تدرك أهمية السوق العراقي سياسيا واقتصاديا.

ويرى مراقبون أن خطة بغداد الجديدة ستشكل تحديا اقتصاديا جديدا لطهران، خصوصا بعد إعادة تفعيل العقوبات الأممية على إيران نهاية أيلول/سبتمبر، بموجب "آلية الزناد" التي فعلتها الدول الأوروبية بعد انتهاء مهلة مجلس الأمن.

وقد يدفع هذا الوضع طهران إلى البحث عن طرق جديدة للالتفاف على العقوبات، بما في ذلك استخدام النظام المصرفي العراقي لنقل الأموال بطرق غير مشروعة، وهو ما واجهته وزارة الخزانة الأميركية مؤخرا بفرض قيود على عدة مصارف عراقية.

الضغوط الأميركية والعامل الدولي
على الرغم من استمرار النفوذ الإيراني السياسي والاقتصادي في العراق، فإن واشنطن تمارس ضغوطا متزايدة على حكومة السوداني لتقليص اعتمادها على طهران في ملف الطاقة، فقد سمحت وزارة الخزانة الأميركية لبغداد باستيراد الكهرباء من إيران استثناء من العقوبات، لكنها تواصل دفعها نحو تطوير مصادر الطاقة في العراق.

ويحاول العراق الموازنة بين تحالفه العسكري مع الولايات المتحدة التي تحتفظ بنحو 2500 جندي على أراضيه وعلاقاته المتجذرة مع طهران.

ويرى السوداني أن بلاده تنتهج "سياسة متعددة الأطراف" تتيح التعاون مع مختلف الشركاء الدوليين، مشيرا إلى رغبة الشركات الصينية والروسية والأوروبية والأميركية والخليجية في دخول السوق العراقية.

وفي تصريح نقلته "وول ستريت جورنال"، وصف توماس ليرستن، المسؤول الكبير في مكتب نائب وزير الخارجية الأمريكي للنمو الاقتصادي والطاقة والبيئة، "عقد الشركة الأمريكية إكسيليريت إنرجي" بأنه "يُظهر ريادة الولايات المتحدة في مجال الطاقة، ويُمثل خطوة إلى الأمام في تقليل اعتماد العراق على الغاز الإيراني عبر خطوط الأنابيب".

التحديات والمخاطر
رغم الطموح الكبير، يواجه المشروع العراقي عقبات معقدة، أبرزها ضعف البنية التحتية للطاقة، ونقص الكوادر الفنية، وتحديات التمويل، إلى جانب الفساد الإداري الكبير وسوء الإدارة على مدى عقود أضعفا قدرة الدولة على تنفيذ المشاريع الكبرى في وقتها المحدد.

ويشير صندوق النقد الدولي إلى أن الفساد لا يزال "عقبة كبيرة أمام النمو الاقتصادي" في العراق، في حين تشكل الأوضاع السياسية غير المستقرة عامل ضغط إضافي على أي مشروع طويل الأمد.

ويحذر خبراء من أن أي تأخر في تنفيذ المشاريع قد يدفع الحكومة إلى الاستمرار مؤقتا في استيراد الغاز الإيراني، خصوصا خلال فترات الذروة في الصيف، وهو ما قد يعيق تحقيق الاكتفاء الذاتي ضمن المدى الزمني المحدد.

ويشير إعلان بغداد عن خطتها لإنهاء الاعتماد على الغاز الإيراني بحلول عام 2028 إلى تحول استراتيجي في إدارة قطاع الطاقة، ويعبّر عن رغبة متزايدة في تحقيق الاستقلال الطاقي وتحرير القرار الاقتصادي من الضغوط الخارجية.

ويعتمد نجاح هذا المسار على قدرة الحكومة على مواجهة التحديات التقنية والمالية، وإبقاء التوازن الإيجابي بين طهران وواشنطن في وقت تتشابك فيه المصالح السياسية والاقتصادية والإقليمية داخل واحد من أكثر ملفات الطاقة تعقيدا في الشرق الأوسط.

يأتي هذا التطور في وقت يواجه فيه العراق أزمة طاقة حادة، حيث يعتمد أكثر من 40 بالمئة من إنتاج الكهرباء على الغاز الطبيعي، مع انقطاعات تصل إلى 12 ساعة يوميا في بعض المناطق، ومن المتوقع أن يساهم المشروع في زيادة القدرة الإنتاجية بنسبة تصل إلى 20 بالمئة، مما يعزز الاقتصاد المحلي ويفتح آفاقا للاستثمارات الأجنبية في قطاع الطاقة.
التعليقات (0)

خبر عاجل