قضايا وآراء

مصر: الصحة تقرر تأجير عيادات خارجية بالمستشفيات بقانون لعبد الناصر!

مصطفى جاويش
"عدم وجود رؤية استراتيجية واضحة للرعاية الصحية مستقبلا، مما يعرض صحة وسلامة المواطنين للخطر"- جيتي
"عدم وجود رؤية استراتيجية واضحة للرعاية الصحية مستقبلا، مما يعرض صحة وسلامة المواطنين للخطر"- جيتي
في ذكرى رحيل الرئيس جمال عبد الناصر يوم 28 أيلول/ سبتمبر 1970؛ خرج المتحدث الرسمي لوزارة الصحة والسكان ليعلن عن خطة الوزارة في تأجير العيادات الخارجية في المستشفيات، وقال إنها تتوافق مع قانون أصدره عبد الناصر عام 1964؛ والخاص بإنشاء نظام مستشفيات المؤسسة العلاجية، مما أثار الكثير من اللغط بين مؤيدي الرئيس المصري الراحل وبين معارضيه حول كيفية اتهامه ببدء الخصخصة للصحة وهو يطرح السياسة الاشتراكية ومجانية الخدمات الصحية.

قرار إنشاء مستشفيات المؤسسة العلاجية عام 1964 بين مجانية الصحة والسياسة الاشتراكية:

يثير قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بإنشاء "مستشفيات المؤسسة العلاجية" عام 1964 جدلا متجددا، باعتباره خطوة بدت متناقضة مع شعارات الحقبة الناصرية التي رفعت لواء الاشتراكية ومجانية الخدمات الأساسية؛ وفي مقدمتها التعليم والصحة، في حين توجد خلفية سياسية واقتصادية لهذا القرار وأهدافه ومبررات إصداره في حينه؛ حيث إنه بعد ثورة يوليو 1952، تبنت الدولة المصرية نهجا اشتراكيا يقوم على مجانية الخدمات الأساسية؛ حيث بدأت الدولة في وضع قوانين لدعم مجانية الخدمات الصحية وربطها بحقوق العمل، وصدر قانون التأمين الصحي لطلبة المدارس، وقانون التأمينات الاجتماعية الذي نص على تغطية طبية للعمال والموظفين.

القرار المتعلق بإنشاء المؤسسات العلاجية في محافظات مصر يعود إلى القانون رقم 135 لسنة 1964 الذي نص على تنظيم هذه المؤسسات، بالإضافة إلى قرارات جمهورية أخرى لاحقة، مثل القرار رقم 1210 لسنة 1964 الذي أنشأ مؤسسات علاجية في المحافظات، بهدف تقديم خدمات علاجية متكاملة بأسعار اقتصاد

وتم التوسع في نشر الخدمات الصحية، حيث تضاعف عدد المستشفيات العامة والمركزية، وإنشاء شبكات الوحدات الصحية المنتشرة بالقرى لتغطية الرعاية الأولية، مع التوسع في مستشفيات الحميات والصدر لمكافحة الأمراض المعدية، وإنشاء مستشفيات متخصصة مثل المستشفى القومي للأورام وغيرها.

والقرار المتعلق بإنشاء المؤسسات العلاجية في محافظات مصر يعود إلى القانون رقم 135 لسنة 1964 الذي نص على تنظيم هذه المؤسسات، بالإضافة إلى قرارات جمهورية أخرى لاحقة، مثل القرار رقم 1210 لسنة 1964 الذي أنشأ مؤسسات علاجية في المحافظات، بهدف تقديم خدمات علاجية متكاملة بأسعار اقتصادية.

كانت المبررات الرسمية لإنشاء المؤسسة العلاجية تشمل كونها جاءت لتلبية احتياجات شريحة من المواطنين تستطيع دفع مقابل خدمة طبية أعلى جودة، ولتحسين مستوى الخدمة الطبية وجعلها أقرب إلى المعايير العالمية، والاستفادة من حصيلة الأجور لرفع أجور الأطباء والكوادر الطبية والحد من هجرتهم للخارج، وتوفير نموذج لمستشفى حكومي متطور دون تحميل الخزانة العامة بكامل التكاليف.

و اعتبر المنتقدون أن القرار مثّل تراجعا عن مبدأ مجانية الصحة، وأنه أول ثغرة فتحت الباب أمام فكرة "العلاج الاقتصادي" داخل المؤسسات الحكومية، في حين أنه كان يوجد رأي آخر يرى أنه لم يتعارض مع مجانية الصحة؛ لأن المستشفيات العامة ظلت مفتوحة بالمجان للجميع، وأن المؤسسة العلاجية كانت مجرد خدمة إضافية وليست بديلا عن النظام المجاني، وبالتالي فقد كرس قانون 1964 على ازدواجية النظام الصحي في مصر: مستشفيات عامة مجانية، وأخرى حكومية بأجر. وقد استمر هذا التعايش حتى اليوم، وتوسع لاحقا في صورة العلاج الاقتصادي والتأمين الصحي الشامل. ويعتبره بعض الباحثين بداية تحول تدريجي نحو خصخصة جزئية للخدمات الصحية تحت غطاء الدولة.

الإعلان عن بدء تنفيذ تأجير العيادات الخارجية في عدد من مستشفيات المؤسسة العلاجية بالقاهرة لشباب الأطباء:

خلال شهر آب/ أغسطس 2025 تناولت الصحف المصرية فكرة وردت عن وزارة الصحة حول تأجير العيادات في المستشفيات الحكومية في إطار مبادرة تعتزم الوزارة تعميمها في بعض المؤسسات الصحية؛ دعما لشباب الأطباء وتخفيفا على الأهالي في بعض الأماكن لتقديم خدمات الكشف لهم في غير مواعيد عمل العيادات الرسمية، خاصة وأن هذا الإجراء يتوافق مع قانون إنشاء المؤسسة العلاجية عام 1964.

وتم الإعلان بأن تلك العيادات الخارجية في المستشفيات التي سوف سيتم طرحها تتبع المؤسسة العلاجية، وسيتم الإعلان عنها عبر مناقصة رسمية تطرح في الوزارة للعمل بالإيجار السنوي لشباب الأطباء، عن طريق نظام المناقصة، حيث يقوم الطبيب المستأجِر بمزاولة عمله في العيادة خلال الفترة المسائية بشروط وضوابط محددة. ومن المتوقع أن تقوم لجنة مكونة من الإدارة العامة للعلاج الحر بالوزارة مع نقابة الأطباء، للتأكد من كافة تراخيص مزاولة المهنة وفحص ومراجعة كافة أوراق الأطباء الذين سوف يتقدمون للدخول في المناقصة.

مخاوف وتساؤلات تحيط بقرار تأجير العيادات الخارجية بالمستشفيات بدلا من تشغيلها حسب التوجيهات الرئاسية مثل باقي مستشفيات الصحة:

وبالطبع فقد تمت إثارة عدة مخاوف تتناول عدة أبعاد؛ منها سؤال حول نوعية الأطباء الذين سوف يتم التعاقد معهم للعيادات في الفترة المسائية، وهل هم من بين أطباء تلك المستشفيات؟ أم أنهم يتبعون عيادات ومراكز ومستشفيات خاصة وتعاقدوا ليستفيدوا من التجهيزات الطبية والآلات والأدوات في المستشفى الحكومي؟! وسؤال آخر حول الطبيعة المالية والمحاسبية، وهل سوف يقوم الطبيب الشاب بدفع قيمة إيجار سنوي كامل أم أنه سوف تتم المحاسبة حسب معدل التردد وبنسبة معينة من الدخل؟ وهل التأجير لمصلحة المريض ليتلقى خدمة طبية من طبيب متخصص نظير أجر اقتصادي، أم أنه لمصلحة الطبيب الشاب غير المتخصص من أبناء المستشفى لرفع دخله؟

تمت إثارة عدة مخاوف تتناول عدة أبعاد؛ منها سؤال حول نوعية الأطباء الذين سوف يتم التعاقد معهم للعيادات في الفترة المسائية، وهل هم من بين أطباء تلك المستشفيات؟ أم أنهم يتبعون عيادات ومراكز ومستشفيات خاصة وتعاقدوا ليستفيدوا من التجهيزات الطبية والآلات والأدوات في المستشفى الحكومي؟!

ونشرت الصحف يوم 28 أيلول/ سبتمبر 2025 الجاري تصريحات المتحدث الرسمي للصحة؛ أن أسعار الكشف في العيادات المسائية ستظل كما هي وفقا للائحة أسعار المؤسسة العلاجية الثابتة والتي لم تتغير، رافضا الخلط غير الدقيق بينها وبين المستشفيات الحكومية التي تدار من الموازنة العامة الدولة. وقال إن القرار الجمهوري الصادر عام 1964 نص على إنشاء ما يُعرف بـ"المؤسسة العلاجية"، موضحا أنها جهة اقتصادية لا تتلقى ميزانية من الخزانة العامة للدولة، وأُنشئت في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر؛ لتقديم خدمات طبية "بأجر" للراغبين من المواطنين.

ومن ناحية أخرى؛ فإن السؤال المطروح والأهم هو لماذا لا يتم تشغيل العيادات لفترة مسائية تابعة للمستشفى مثل باقي المستشفيات الحكومية؟ وكانت صحيفة الوطن قد نشرت يوم الثلاثاء 27 أيلول/ سبتمبر 2022 أن مصدرا مسؤولا في وزارة الصحة قد صرح بأنه من المقرر أن يتم تشغيل عيادات مسائية في المستشفيات الحكومية لجميع التخصصات، وعائد العيادات المسائية يعود إلى الأطباء، ما يحقق دخلا إضافيا للفريق الطبي يتناسب مع الجهد المبذول في تقديم أوجه الرعاية الصحية، خاصة وأن هذا القرار سيتم تطبيقه وفقا لتوجيهات رئاسية بتوفير بيئة عمل مناسبة للأطباء ودعمهم ماديا خاصة فيما يقدمونه من جهد مبذول كبير.

وأخيرا تبقى ملاحظة هامة ومربكة في الوقت ذاته تؤكد على وجود تخبط في إدارة منظومة القوانين الصحية:

في أيلول/ سبتمبر 2022، أعلنت وزارة الصحة المصرية عن توجه لطرح خمسة مستشفيات تتبع المؤسسة العلاجية أمام القطاع الخاص للاستثمار بهدف تحسين مستوى الخدمة الصحية، وقد استندت الوزارة إلى الحاجة لزيادة الإنفاق في قطاع الصحة نظرا لزيادة تكاليف الأجهزة والأدوية، مما يتطلب استثمارات إضافية، وتم الطرح بناء على القانون رقم 87 لسنة 2024 في مصر، وهو "قانون ينظم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية"، ويُعرف إعلاميا بـ"قانون تأجير المستشفيات"، والذي يتيح للقطاع الخاص إدارة المنشآت الصحية الحكومية لمدة تتراوح بين 3 و15 عاما.

والملاحظة الخطيرة هنا تشمل التعارض بين فكرة تأجير العيادات الخارجية في مستشفيات المؤسسة العلاجية لشباب الأطباء؛ وهي فكرة ما زالت غامضة عمليا، وبين فكرة تأجير المستشفيات بالكامل للمستثمرين، وبفرض أن طبيبا شابا تعاقد بالفعل على تأجير العيادة الخارجية في أحد مستشفيات المؤسسة العلاجية حسب قانون عام 1964، وبعدها تقدم مستثمر لاستئجار المستشفى كاملا حسب القانون 87 لسنة 2024؛ كيف يتم التصرف وقتها؟ وهذا يعني عدم وجود رؤية استراتيجية واضحة للرعاية الصحية مستقبلا، مما يعرض صحة وسلامة المواطنين للخطر.
التعليقات (0)

خبر عاجل