الزعم بأنّ ثمّة استفاقة في الإقليم بعد الهجوم الإسرائيلي على الدوحة هو زعم فاقد للأدلة والأسانيد.
في أحسن الأحوال هناك ما يشبه التململ الذي يبعث، أو يحاول أن يبعث برسالة ما زالت متردّدة، وما زالت تحوم حول الموضوع دون أيّ اقتراب فعلي حتى الآن.
يستدلّ أصحاب هذا الزعم على هذه الاستفاقة بالكلمات التي أُلقيت في القمة العربية الإسلامية، والتي «تجاوزت» المعدّل الوسطي للتوقعات، ويشيرون إلى عبارات بعينها، وإلى خطابات طالبت باتخاذ الإجراءات الملموسة الرادعة، وإلى مطالبات ترقى إلى مستوى الذهاب باتجاهات تغيّر الواقع، وتنقله إلى واقع جديد كلياً ونوعياً، وبصورة تكاد تكون «انقلابية» على هذا الواقع.
دعونا نعُدْ بهذا الصدد إلى تسلسل الوقائع والأحداث، ودعونا، أيضاً، نجرِ بعض المقارنات.
هذه هي المرّة التي يجري فيها «الانتهاء» من بيان القمة قبل كلمات الملوك والرؤساء والأُمراء.
ماذا يعني ذلك؟
بكل بساطة هذا يعني، والحديث هنا موجّه لأميركا، لأنها كانت خلف باب هذه القمة، لا عليك بالخطابات والكلمات، هذا ليس سوى همّة إعلامية وسياسية «لا بدّ منها»، وأنتم ــ وما زال الكلام موجّهاً لأميركا ــ سيّدة العارفين، والمسألة هي من قبيل ما يلزم في مثل هذه المناسبات.
وبهذا التوجّه تركت القمة «الركّ على البيان»، ولكي يكون البيان هو معيار، ومقياس درجة الرضا، أو درجة السعادة الأميركية بهذه القمة، أو حتى بعض الامتعاض.
من هذه الزاوية «أبدعت» القمة عندما أنهت كل شيء قبل أي كلام قد يُقال فيما بعد.
لو كان البيان قد تضمّن بعض الإشارات التي «يُشتمّ» منها رائحة القرارات والتوجهات، والإجراءات لأمكن اعتبار المسألة ــ أي مسألة إنهاء القمة قبل كلمات الوفود ــ عادية، وربما طبيعية، أما أن لا يتضمن البيان سوى بعض الإيماءات والإيحاءات الغامضة والمحايدة في حقيقتها.. فهذا يعني أن «الإبداع» كان مقصوداً، وأن ما تم ليس سوى الطريقة التي تمّ بوساطتها إرضاء من كانوا خلف أبواب القمة.
لا يختلف الأمر عندما صدر البيان عن مجلس الأمن عندما تمّت مقايضة صدوره ــ وهو من دون أي قيمة قانونية ــ بعدم الإشارة إلى الدولة العبرية، وكأن الدولة التي هاجمت دولة
قطر من كوكب آخر، والإشارة إليها مبنية للمجهول، طالما ليست معروفة، ولا تتوفّر حولها المعلومات الكافية!
في مجلس الأمن تمّ «التنازل» عن تسمية «دولة
الاحتلال»، وفي بيان القمة العربية الإسلامية تم التنازل الصارخ عن دور الولايات المتحدة في الهجوم على الدولة القطرية، بل تمت إعادة التأكيد، وعلى جناح السرعة وبأسرع ما يلزم بكثير على الشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة وأنها ما زالت على حالها، وأنها أكثر توطُّداً ممّا كانت عليه.
فهل هذا كلّه مؤشّر منطقي على أنّ ثمة استفاقة في الإقليم العربي والإسلامي لمواجهة التحدّيات والأخطار التي تحدّث عنها الجميع، وشخّصها، وأطنب في توضيح معالمها وتجلّياتها؟
الذين يزعمون بأننا أمام حالة استفاقة عربية وإسلامية جديدة يرون في المناورات المشتركة بين مكوّنات كبيرة من الإقليم، بحرية أو غير بحرية، ويرون في توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين الباكستان والمملكة العربية السعودية أمثلة ساطعة على هذه الاستفاقة.
من المؤكّد أن بعض دول الإقليم العربي والإسلامي قد استشعرت بعد الهجوم على دولة قطر نوعاً من الخطر في ظل متابعتهم، ومعرفتهم، أيضاً، بحجم المأزق الإسرائيلي، وما وصلت إليه حالة اليأس الإسرائيلية التي قد تدفع بهم إلى ارتكاب حماقات أُخرى، وربما تفوق الحماقة التي أقدمت عليها بالاعتداء على الدوحة، ومن المؤكّد، أيضاً، أن بعض هذه البلدان والمكوّنات قد استشعرت ــ مع أنها كانت تدرك وتعلم ــ خطراً متزايداً من البجاحة والوقاحة التي تتصرّف بها الإدارة الأميركية عندما يتعلق الأمر بموقفها في «الموازنة والاختيار» ما بين الجنون الإسرائيلي، وما بين الاستجداء العربي لأقلّ ما يمكن من التوازن في الموقف الأميركي، وهو الأمر الذي بكلّ تأكيد بات يُؤرّق هذه الأطراف والدول.
قد يكون أن هذه الدول أرادت أن ترسل إلى الولايات المتحدة بعض الرسائل هنا، لكن الأمر يحتاج إلى نظرة أعمق بكثير.
الحقيقة أن بعض دول الخليج هي من عطّلت إعادة تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، ويُقال إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد خرج ممتعضاً من القمة، لأن هذا الاقتراح كان مصرياً بالأساس.
وأغلب الظنّ أن «المناورات» بأشكالها المختلفة، ربّما كانت نوعاً من إعادة استرضاء الدولة المصرية، وهي توحي بكل المعاني بأن التهديد الحقيقي للأمن القومي والأمن الإقليمي لا يأتي من إيران، ولا من تركيا، وإنما فقط، وأوّلاً وعاشراً من دولة الاحتلال، وهذه رسالة مهمّة، على كلّ حال، لكن إيران تحتاج بشدّة إلى مثل هذه الرسالة، وتركيا تحتاج إليها ربّما أكثر من إيران في ظلّ أنها ــ أي تركيا ــ تدرك أن دولة الاحتلال قد وضعت الحكومة السورية الانتقالية الجديدة أمام خيار وحيد وهو القبول بتوقيع الاتفاقية الأمنية، وإذا رفضته الأخيرة، فالدولة التركية ذاهبة بالضرورة إلى الصدام العسكري مع دولة الاحتلال، وهي تريد أن تستقوي بالوضع العربي والإقليمي في مواجهة ما يمكن أن تتطوّر إليه الأحداث لاحقاً.
كما أن مصر ما زالت غير واثقة من حسم الصراع لصالح رؤيتها في ليبيا، وفي السودان، مع بقاء التهديد الأثيوبي ماثلاً أمامها، خصوصاً بعد أن وضعت مصر أكثر من موطئ قدم لها في الصومال.
أقصد أن هذه المناورات تأتي في سياقات من الاحتياجات الخاصة لبعض دول الإقليم أكثر منها حالة استفاقة وحتى بالنسبة لاتفاقية الدفاع المشترك بين الباكستان والعربية السعودية فهي مجرّد إظهار وإعلان عن علاقة خاصة ومتينة جداً بين البلدين، بما في ذلك المظلّة النووية لأن الأخيرة هي من موّلت كامل البرنامج النووي الباكستاني، ورعته وحمته بكل ما لديها من أوراق ومكانة وأدوار.
وبالتالي فإن إظهار وإبراز وإعلان الاتفاقية هو أمر إيجابي كبير ولكنه تحصيل حاصل لعلاقة قديمة ومتينة، ومعروفة تماماً. لا يوجد أيّ محاولة هنا للتقليل من شأن وأهمية هذا كلّه، وهذه التطورات بصرف النظر عن خلفياتها ودوافعها هي تطورات إيجابية، وهي في الاتجاه الصحيح، على كلّ حال. لكن السؤال الأكبر والأهمّ هو: ماذا عن حرب الإبادة والتجويع والتطهير الإثني على قطاع غزّة؟ وماذا عن حرب الالتهام في الضفّة الغربية؟
هل تأتي هذه «الاستفاقة» من أجل، وبهدف وقف المذبحة وحرب الإبادة والتطهير العرقي في غزّة على طريق التهجير والاقتلاع الذي تراهن الإدارة الأميركية، والوكيل التنفيذي الممثل في دولة الاحتلال، وجيشها المتوحّش في الوصول إلى «الجوهرة» العقارية التي يتحدث عنها الفاشي بتسلئيل سموتريتش علانية في وسائل الإعلام؟
هل هناك علاقة، مهما كانت ضمنية بين كل هذه الاستفاقة، وبين كل مخططات الالتهام التي نشاهد فصولها تباعاً، وعلى مدار الساعة في الضفة؟
عن أيّ استفاقة يتمّ الحديث إذا كان كل ما يحيط بهذه الاستفاقة يتعلّق بخطوات ما زالت لا ترقى حتى إلى الرسائل المشفّرة ارتباطاً بما يجري في الضفة والقطاع؟
وهل كل ما يجري في إطار هذه الاستفاقة هو أن
فلسطين ستدفع ثمن حماية وبقاء النظام العربي والإسلامي بدلاً من أن ينبري الأخير ويهبّ للدفاع عن فلسطين، كونها هي الخطّ الحقيقي للدفاع عن أمّتين كاملتين يزيد سكانهما أو يقارب على الأقلّ ملياري نسمة؟
هل تفتقد الأمّتان للأوراق والمقدّرات التي توقف هذه الحرب الهمجية البربرية على الشعب الفلسطيني، أم أنّ التحالف الصهيو أميركي أصبح، وهو مستعدّ مؤقّتاً على الأقل لمقايضة «استقرار» الإقليم العربي والإسلامي باستكمال دولة الاحتلال لخطّة الإجهاز على قضية الشعب الفلسطيني من كل جوانبها؟
أرجو أن لا يأتي يوم نتمنّى فيه البقاء في حالة السُّبات العميق بدلاً من استفاقة كهذه!