قضايا وآراء

حل الإخوان المسلمين.. الفكرة المستحيلة

سمير العركي
"المهمة التي رسمها البنا للإخوان، تتخطى مهام أي تنظيم محلي"- الأناضول
"المهمة التي رسمها البنا للإخوان، تتخطى مهام أي تنظيم محلي"- الأناضول
في العاشر من أيلول/ سبتمبر، أعلن المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا عامر البوسلامة، رفض دعوات حل الجماعة، التي أثيرت مؤخرا، وذلك عقب مقال مستشار الرئيس السوري للشؤون الإعلامية أحمد موفق زيدان "متى ستحل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا نفسها؟"، والذي أثار عاصفة من الجدل والآراء المتباينة.

وقد تابعت أكثر ما نُشر، فوجدت أن المؤيدين للحل مدفعون بآراء واقعية تستند إلى الفشل العريض الذي وصم أداء التنظيم عقب ثورات الربيع العربي، حيث ناء كاهل الجماعة عن حمل تبعات المسؤولية التي ألقتها الجماهير عليها، وصدم أنصار التغيير في أداء الجماعة المتواضع، والذي أتاح الفرصة لنجاح الثورات المضادة، فيما لا يزال المعارضون للحل مقتنعين بأن الجماعة تمتلك مشروعا تغييريا لا ينبغي التفريط فيه، كما يعتقد أتباعها أنها وحدها المؤهلة لقيادة المجتمعات الإسلامية، وبالتالي فلا بد من الحفاظ عليها.

هذا الجدل الدائر حتى الآن، والمرشح للاستمرار، فاته أن حل الجماعة ليس قرارا فوقيا يتم التوصل إليه عبر اتفاق بين الزعامات والقيادات، وبالتالي يصبح نافذا من فوره. فالحمولة الفكرية التي تحملها الجماعة على كاهلها، وخاصة تلك المتمثلة في إنتاج مؤسسها ومرشدها الأول حسن البنا؛ تحول دون اتخاذ قرار ضخم مثل قرار حل الجماعة، ويجعل من هذا الحل "فكرة مستحيلة" حتى ولو تعاظمت الأضرار التي تلحق بالجماعة! وهو ما يفرض علينا أن نستعرض مفهوم "الجماعة" في وعي وفكر مؤسسها حسن البنا، ثم بحث مدى إمكانية الانعتاق من هذا "الأسر" التاريخي الذي قارب المائة عام.

الجدل الدائر حتى الآن، والمرشح للاستمرار، فاته أن حل الجماعة ليس قرارا فوقيا يتم التوصل إليه عبر اتفاق بين الزعامات والقيادات، وبالتالي يصبح نافذا من فوره

البنا والإخوان

إن المتتبع لتصور البنا عن جماعة الإخوان المسلمين، من خلال رسائله المتنوعة، يدرك أن الرجل لم يكن يؤسس جمعية إصلاحية دعوية، بل "وطنا" بديلا يعمل من خلاله على إعداد أتباع وأنصار يتمكن بهم من استعادة الخلافة الملغاة.

لقد كان السقوط النهائي للدولة العثمانية بمثابة صدمة له ولغيره، دفعه ذلك إلى البحث عن بديل مناسب، فتراه يخاطب الإخوان والرأي العام بهذه القناعة بكل صراحة ووضوح قائلا:

"لسنا حزبا سياسيا، وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا، ولسنا جمعية خيرية إصلاحية، وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا، ولسنا فِرقا رياضية، وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا، لسنا شيئا من هذه التشكيلات، فإنها جميعا تبررها غاية موضعية محدودة لمدة معدودة".

فماذا يكون الإخوان إذن؟ هنا يكمل البنا قائلا:

"ولكننا أيها الناس: فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضع، ولا يقيده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين".

الجماعة كما رآها البنا في سنوات التأسيس، فكرة تتجاوز الحدود الجغرافية (التنظيم الدولي)، ولن ينتهي أمرها إلا بانتهاء الحياة الدنيا.

إن نشوء "أبدية التنظيم" في فكر وعقل البنا، إنما نشأت -في وجهة نظري- من التماهي الذي حدث أولا في وعي البنا بين الجماعة وبين مجتمع الإسلام "المفقود" من وجهة نظره.

فأعضاء الجماعة ليسوا بشرا عاديين، بل هم كما يقول البنا: "أصحاب رسول الله، وحَمَلة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا، ورحمة الله للعالمين".

لقد تجاوزت جماعة الإخوان المسلمين في عقل ووعي البنا، كونها تجمعا بشريا يعتريه النقص، ويتحكم فيه حظوظ النفس، وغلبة الأهواء، مثله مثل أي تجمع بشري.

تجاوزت الجماعة كل ذلك إلى كونها "دعوة بريئة نزيهة، قد تسامت في نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية، واحتقرت المنافع المادية، وخلفت وراءها الأهواء والأغراض، ومضت قدما في الطريق التي رسمها الحق تبارك وتعالى للداعين إليه".

كما أن الإخوان ليسوا مجرد جمعية خيرية لكنهم "روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيسدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مرددا دعوة الرسول صلي الله عليه وسلم ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلي عنه الناس".

إن المهمة التي رسمها البنا للإخوان، تتخطى مهام أي تنظيم محلي، فالتنظيم له رسالة عالمية تتماهى مع مهام الإسلام نفسه.

إذ المطلوب من الإخوان الوقوف في وجه الحضارة المادية الغربية، ليس فقط حتى تنحسر عن بلاد المسلمين، بل ملاحقتها -وفق تأكيد البنا- وغزوها "في عقر دارها، حتى يهتف العالم كله باسم النبي، وتوقن الدنيا كلها بتعاليم القرآن، وينتشر ظل الإسلام الوارف على الأرض".

وطالما أن هذه هي المهمة المنتظرة للجماعة "الأمة البديلة" فلا ينبغي لعموم أفراد الإخوان أن يقيسوا أنفسهم بغيرهم، لأن دعوتهم "تتخذ نورها من نور الله ومنهاجها من سنة رسوله"، أما غير الإخوان المسلمين من الدعوات فـ"تبررها الضرورات، وتذهب بها الحوادث والأيام."

ولو ذهبنا نستقصي الأوصاف التي خلعها البنا على "الجماعة" في رسائله ومقالاته وخطبه، لضاق بنا المقام، لكن ما سبق ذكره يشرح لنا كيف حلت "الأمة" بمعناها الاستراتيجي الواسع في جماعة "الإخوان" المحدودة، بحيث تلاشت الفوارق الأساسية بين الاثنين، ولم يكن ذلك قاصرا على البنا بحكم أنه مؤسس التنظيم، بل امتد -باعتبار مركزية البنا الفكرية والروحية- إلى الأجيال التالية.

الجماعة "الأم"

"قد نبتت هنا وهناك أفكار مريضة، تريد أن تتخلص من دعوة حسن البنا ومن أفكاره، فكان لا بد أن يعرف هؤلاء وغيرهم أن الانطلاقة على غير فكر الأستاذ البنا في عصرنا قاصرة أو مستحيلة أو عمياء، إذا ما أردنا عملا كاملا متكاملا في خدمة الإسلام والمسلمين".

العبارة السابقة للشيخ سعيد حوى، المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، كتبها في افتتاحية كتابه "في آفاق التعاليم"، حيث كان يشرح رسالة "التعاليم" التي وضعها البنا للنظام الخاص، ثم رأت قيادة الجماعة في التأسيس الثاني في السبعينات تعميمها على الجماعة كلها، في تحول أضر بالجماعة ضررا بالغا إذ تم تحويلها إلى محض تنظيم سري، وتلك قصة أخرى.

المهم هنا أن حوى لم يكن معبرا عن فكره الخاص بقدر ما كان شارحا لنظرة عموم الإخوان إلى البنا؛ باعتباره "المنقذ من الضلال" وباب الولوج إلى النصر الكبير والتمكين النهائي.

والبنا عندما رسم ملامح التصور العام لجماعة الإخوان -كما أسلفنا الذكر- فليس من المنتظر أن تخرج الأجيال اللاحقة، هذا إن لم تعمل على تطويره والزيادة عليه.

فطلعت فهمي، المتحدث باسم الجماعة (فرع د. محمود حسين) كتب مقالا في شباط/ فبراير 2024 قال فيه:

" كشفت الأحداث أن دعوة الإخوان المسلمين كانت بحول الله وقوته معقد الآمال، وسند التحرير، وداعمة الحريات، ومدعوة عند الشدائد والأمور الجسام."

والمفارقة أن فهمي يكتب هذه العبارات بعد أكثر من عشر سنوات على سقوط حكم "الجماعة" بسبب أخطائها مهما قيل عن المؤامرات داخلية كانت أو خارجية، وبعد انقسام الجماعة نفسها إلى نحو أربع جماعات بعد صراع خرج إلى العلن بشكل قاس.

كان البوسلامة متسقا مع ذاته، وهو يرفض دعوات حل الجماعة، فوجودها من وجهة نظره "ضروري، ويمثل إضافة للحالة السورية الجديدة"

لكن مهما حدث وجرى فإن الصورة "الطهورية" للجماعة لا يمكن أن تفارق وعي الفرد الإخواني الذي تربى ونشأ وشب وشاب شعره على عبارات البنا في حق "الإخوان المسلمين"، فهو يعتبرها بمثابة الجملة الاعتراضية التي لا تؤثر في السياق العام للأحداث، وأنه مهما تراجعت الجماعة، فهو تراجع مؤقت وستواصل صعودها.

إننا أمام ما يشبه بـ"الحتميات" التاريخية التي نظمها الفكر الماركسي، ولم يوقن معتنقو النظرية بخوائها، إلا مع انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي كله.

استحالة حل الجماعة

كان البوسلامة متسقا مع ذاته، وهو يرفض دعوات حل الجماعة، فوجودها من وجهة نظره "ضروري، ويمثل إضافة للحالة السورية الجديدة".

فالوعي الجمعي الإخواني الذي تشكل بكتابات البنا، وتنظيرات سيد قطب، وإسهامات اللاحقين، موقن بفشل أي فكرة إصلاحية أو محاولة "تمكين" خارج إطار فكر "البنا" كما رأينا سلفا في تنظيرات سعيد حوى، الذي لم يكن مغردا خارج السرب، بل معبرا عنه تمام التعبير.

وأي "تمكين" قد يحدث من خارج "الإخوان" أو أفكار "البنا"، لا تعده الجماعة تمكينا بمفهومها الخاص، بل هي تجربة "مؤقتة" تفرض على الجماعة أن تبقى في حالة استنفار واستعداد، فلربما تم استدعاؤها فجأة لتملأ الفراغ الناتج عن انهيار السلطة.

لكل هذا فإن دعوات حل الجماعة هي "فكرة مستحيلة" طالما أن الأمر لم يتم حسمه على المستوى الفكري والتنظيري أولا.
التعليقات (0)

خبر عاجل