تعرض الكثير من المحللين بالدراسة والتحليل لاعتداءات الصهاينة على قطر وعلى ما يفعلون بالفلسطينيين، في قصفهم للوفد الفلسطيني المُشكّل من رجال المقاومة وفي جرائمهم بغزة، فاعتبروه غباء أو تهورا من النتن ياهو، فوصفه بعضهم بالثور الهائج، أو الغبي المغامر ببلاده هروبا من دخول السجن، الذي ينتظره ما دام على قيد الحياة…، ومع بقاء شيء من هذه الاحتمالات التي ليست مخطئة تماما، فإن موضوع “الفعل الصهيوني” في المنطقة -في تقديري- أعمق من تهور حاكم طائش تستدرجه الانتقامات أو الهروب إلى الأمام من قضايا قد تطال شخصه؛ لأن الاعتداء على دولة قطر ليس كأي اعتداء!! كما أن الفعل الذي يقومون به في غزة لا يشبه فعلا في التاريخ الإنساني، إلا ما كان من هتلر في الحرب العالمية الثانية.
صحيح أن قطر دولة صغيرة ولا وزن لها مساحة وعدد سكان… وهي دولة محسوبة على العرب وبالتالي فهي مفطورة على العداوة للصهاينة، كما أن فسلطين تحت احتلال يفعل بها المحتل ما يريد، ولكن ما نغفل عنه في النظر إلى هذه الدولة الصغيرة أنها تميزت بميزات لا توجد في الكثير من الدول ذات الثقل في عالمنا العربي والإسلامي.
أولا: قطر دولة صغيرة، ولكنها نجحت بأنشطتها الدبلوماسية والثقافية، وفعلت ما عجز عنه الكبار، إلى جانب أنها لا تمثل خطرا على أحد من جيرانها وغير جيرانها بمن في ذلك الصهاينة.
ثانيا: أن قطر حليف للولايات المتحدة الأمريكية له ثقله في المنطقة بفضل ما يقوم به على المستوى الدولي، ولا يمكن تجاهله في الاستراتيجيا الأمريكية خاصة.
ثالثا: أن دولة قطر من بين الدول الصغيرة التي ترقت في تطوير مؤسساتها في المجالات الاستراتيجية والدبلوماسية والثقافية المعرفية وعالم الاستثمار…، ومن ذلك الثورة الإعلامية التي أحدثتها قناة الحزيرة في العالم العربي والإسلامي، إضافة إلى الوساطات التي تقوم بها في أكثر من تجربة ومنها التفاوض بين المقاومة والكيان الصهيوني، وفي عالم استثمارات كذلك هي دولة لها أسهمها في المؤسسات الاقتصادية الكبيرة في العالم وكل ذلك معلوم لدى الجميع… وهو من القيم التي ترفع من قيمة قطر في معادلة العلاقات الدولية…
كما أن على
الاحتلال واجبات تجاه المحتل، فهو ليس حرا فيما يريد بهذا الشعب الذي احتله، على الأقل فيما يتعلق بالمناطق المحتلة في سنة 1967.
ولو لم يكن لقطر إلا هذه الأمور الثلاثة لكفى الصهاينة مانعا من الاقتراب من قطر وساحاتها، فضلا عن الاعتداء عليها…، ولو لم نستحضر من القوانين الدولية إلا حق الشعب المستعمر على النظام الذي يحتله، لكفانا لمحاسبة الصهاينة على الكثير من جرائمهم تجاه الشعب الفلسطيني… فما الذي شجع الصهاينة على الاعتداء على دولة قطر وهي بهذا المستوى من الحماية المفترضة؟ وما الذي يجعلهم يستهينون بالفلسطيني إلى هذا المستوى من الوقاحة؟ أهي الشجاعة الصهيونية؟ أم التغافل الأمريكي؟ أم الفوضى الخلاقة على مذهب كوندوليزا رايس؟ أم هو الهوان العربي؟
إن ما قام به الصهاينة لا يخضع للمقررات والتحليلات العادية، فلا الأمريكان غافلون عن سوء ما قام به الصهاينة ولا الصهاينة أنفسهم يجهلون ذلك…، فهو مخالف لجميع الأعراف الدولية والقيم الأخلاقية، وإنما الواقع الذي يتحرك فيه الصهاينة منذ 7 أكتوبر 2023، يتميز بتجمُّد المؤسسات الدولية فيما يشبه الفراغ القانوني الدولي، ولو علم الصهاينة والأمريكان أن النتن ياهو يصيبه ما أصاب مجرمي الصرب ولو بنسبة 10 بالمائة، ما تجرؤوا على الجريمة ومباركته، سواء داخل فلسطين أو خارجها، ولكن لما علموا أن المؤسسات الدولية وقيمها التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، قد سقطت نهائيا، ولم تعوض بمؤسسات وقيم جديدة، منذ بدايات سقوط تلك المؤسسات وقيمها منذ نهاية الحرب الباردة، عندما أعلن العالم أنه في حاجة إلى إعادة صياغة لنظام عالمي جديد، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، تشجعوا على ارتكاب الجرائم التي بلغت الذروة هذه الأيام في الفعل الصهيوني.
ومنذ ذلك اليوم والعالم يبحث في صيغ جديدة وأخلاقيات جديدة لتحكم العالم كما وضعت المؤسسات والقيم الناظمة للعلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يستقر الأمر على شيء إلى اليوم.
ومن ثم فإن ما قام به الصهاينة ليس مجرد اعتداء، يستحقه المعتدى عليه، أو طمع المعتدي في تحقيق مكسب معين، وإنما هو نشاط عسكري في إطار تحولات دولية يسجل به الصهاينة حضورهم كقوة فاعلة في جميع المجالات، ليكون لهم المكان الذي يهدفون إليه في عالم تعاد صياغته من جديد…
الصهاينة قرروا ألا يعترفوا بجميع المؤسسات الدولية والقوانين التي وضعت لتحكم العالم
وما هو مشاهد من انتهاكات من قبل الصهاينة في جميع أنشطتهم العسكرية والدبلوماسية، ناتجة في ما يبدو عن هذا التصور المبدئي… فقتل الأطفال والنساء والمدنيين في غزة لا علاقة له بحقوق الإنسان والطفل والمرأة المقرر في المواثيق الدولية كما لا يهفى… وتهديد مسؤولين في محكمة العدل الدولية والتمرد على أحكامها، التي تعد من المؤسسات ذات الثقل في حفظ النظام العالمي العام… والاعتداء على سوريا لا مراعاة فيه للقوانين الدولية ولا للأعراف الدارجة بين الدول؛ بل إن ما وقع لقطر لا احترام فيه لأدنى مستويات العلاقات البينية بين الدول، فضلا عن أن تقوم به قطر من وساطة يخدم الصهاينة أنفسهم… كما أن ما يقوم به الصهاينة في غزة لا علاقة له بالطابع الإنساني للحروب؛ لأن الحروب على ما فيها من قتل وتدمير إلا أن فيها أخلاقيات معترف بها إنسانيا.
إن الصهاينة قرروا ألا يعترفوا بجميع المؤسسات الدولية والقوانين التي وضعت لتحكم العالم بعد الحرب العالمية الثانية، التي يعتبرونها سقطت ولم يعد لها قدرة على تحقيق المطلوب بالنسبة إليهم، وكان الأولى أن تكون هذه القناعة عند العرب قبل الصهاينة؛ لأنهم ضحايا هذه المنظومة الدولية الجائرة…
لقد انتظر الصهاينة خلال سنوات ما بعد الرحب الباردة 1991/2024، الهيمنة الأمريكية الكلية على العالم فيما يعرف بتعميم قيم العولمة، ولكن العالم لم يخضع لذلك بفضل بعض القوى الحية في العالم، فبقيت الأمور تراوح مكانها في ظل حوار أو قل صراع خفي بلا ضجيج، منذ ذلك عملية 11 سبتمبر ليثور العالم من جديد على الطغيان الأمريكي وعلى ما يسمى بالإرهاب الدولي المتمثل في تمرد الشعوب المظلومة، وبدايات الحراك العربي 2011، الذي توجت فضائله بطوفان الأقصى.
لقد أحسنت قطر وربما أدركت جذور اللعبة، عندما دعت إلى قمة عربية إسلامية، لمناقشة الأمور من جديد في النظر إلى العالم، وفق معايير جديدة لا علاقة لها بما مضى، سواء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي ثبت فيها فشل التسويات السياسية، من تطبيع ونظام الدولتين وإمكانية الصلح مع الصهاينة على أي وجه كان… أو فيما يتعلق بإصلاح النظام السياسي العربي الإسلامي الذي يحتاج إلى إعادة نظر… فقد أثبت هذا النظام فشله، قبل الانتفاضات العربية وبعدها رغم أن التحولات العالمية كلها تنبئ بضرورة إصلاح هذه الأنظمة ولكن شيئا لم يتحقق؛ بل ربما كان الاستبداد في بعض الدول العربية أكثر إيلاما من ذي قبل… مثل الواقع الذي تشهده الساحتين المصرية والعراقية…
ومع ذلك فإن هناك بوادر وتجارب محلية مهمة ولها تأثيرها على مستقبل العالم الذي يصنع من جديد، منها التجارب: الإيرانية والتركية والماليزية؛ بل إن مؤهلات العالم العربي والإسلامي بطاقاته المادية والطاقات الشبابية والتطور المعرفي، تشجعه على خوض المعركة بجدارة، حيث أن هذا العالم في مستوى يسمح له بدخول المعركة بأفضل الوسائل كما دخلها من قبل بقواه التحررية الوطنية، وهو أقل قوة وأضعف مستوى وأكثر فقرا،’ ومع ذلك حقق استعادة سيادته على أرضه بمستوى أفضل من الذي كان عليه.
وإذا كان الصهاينة الذي يعدون أيامهم إلى نهاية لكيانهم غير المؤسس، فإن على العرب والمسلمين -أنظمة وشعوبا- الاستيقاظ والانتباه إلى ضرورة المرحلة التي تصنع فيها مصائر الدول والشعوب كلها.
القدس العربي