مقالات مختارة

زوال إسرائيل.. حتمية تاريخية أم ضرورة دينية؟

التهامي مجوري
جيتي
جيتي
هذا العنوان على خلاف الواقع الذي يشاهده العالم، واقعا وقوة وعددا وعُدّة وعزائم… فالقوة والتكنولوجيا والدعم الدولي، دولا ومؤسسات وشركات عملاقة، كلها إلى جانب الكيان الصهيوني، إضافة إلى إعلان قيادات هذا الكيان الاستمرارَ في الغيّ والإصرار على إقامة دولة “إسرائيل الكبرى” المعلن عنها منذ سنة 1948 احتفاءً بالعودة إلى “أرض الميعاد”!

ولكن منطق الأشياء، رغم هذه الغلبة المفروضة بالحديد والنار، له لغته التي لا يتخلى عنها، مهما كانت هذه القوة وهذا القدر من التمكين الذي يبدو عليه الانتصار الخالد.

من الناحية التاريخية فإن “دولة إسرائيل” نشأت في سنة 1948، وقد نص على ذلك خطاب نتن ياهو في سبتمبر 2023 عندما كان يعرض على العالم الخريطة التاريخية لفلسطين عشية الاحتلال في سنة 1948 إذ كانت المنطقة المحتلة نقطة في بحر، محاطة بالأعداء من كل مكان، ثم كيف تحولت هذه النقطة إلى مساحة واسعة بفضل ما حصلت عليه من توافقات ومشاريع تطبيعية، وبشر نتن ياهو العالم بأن نظامه لا غالب له اليوم.

هذا العرض يعني أنه لم يكن قبل 1948، ومن ثم فإن مجرد وجود فئة من الفلسطينيين رافضة لهذا الوجود، يعدُّ احتلالا لا بد من إزالته، مهما كانت الصيغة التي نشأ بها، سواء كان باختيار عصابة من اليهود المنبوذين من العالم، أو بفعل الاستعمار الغربي الذي أجبِر على احترام تقرير مصير الشعوب، فقرَّر أن يغير صيغة الاستعمار، فيكون داعما لليهود الصهاينة في إنشاء هذا الكيان من أجل التخلص من اليهود من جهة، وللحفاظ على مصالحه في منطقة الشرق الأوسط “قلب العالم الإسلامي” من جهة أخرى.

والفلسطينيون جميعا يصرون على البقاء، ولا نجد فلسطينيا واحدا يشذّ عن هذه القاعدة، وربما ضعُف البعض فقبل بحل الدولتين بسبب ضغوط القوى الدولية، ولكن الإجماع قائم على أن فلسطين محتلة… كيف تتحرر؟ هنا اختلفوا في الصيغة… مع الاتفاق على ضرورة التحرير.

وحتى لو فرضنا جدلا أن اليهود فرضوا أنفسهم وقبل بهم الفلسطينيون، فإن طبيعة هذا النظام الشاذ، أنه لا يقبل بين صفوفه إلا اليهود في تركيبته الاجتماعية السياسية، بل إن الفلسطيني الموجود في الداخل وهو محسوبٌ على الدولة اليهودية، كتب عليه أن يعامَل كمواطن من درجة ثانية، وليس له من الحقوق كمواطن عادي وذلك للأسباب التالية:
الطبيعة الصهيونية التي تفرض فكرة تهجير الفلسطينيين؛ لأنها لا تقبل غير اليهود معهم، لا يمكن أن تستمر

أولا: اليهودي له ثقافة خاصة من دون العالم كله، لا يقبل شريكا له إلا بمواصفات معينة، وهي أن يكون يهوديا، ومن لم يكن يهوديا لا يعامَل بالمعاملة ذاتها التي يعامَل بها اليهودي، وهذا وحده كاف لانتفاض أهل الداخل الفلسطيني ولو بعد حين؛ لأن القبول بهذا الذل قد يقبل به المواطن الفلسطيني، مقارنة بالوضع الذي يعيش فيه أهل غزة والضفة، ولكنه سينتفض لا محالة.

ثانيا: إن هذه الطبيعة الصهيونية التي تفرض فكرة تهجير الفلسطينيين؛ لأنها لا تقبل غير اليهود معهم، لا يمكن أن تستمر، وإذا استمرت ونجحوا في تهجير أهل غزة سيهجِّرون لاحقا أهل الضفة، وإذا نجحوا في تهجير أهل الضفة، فسوف يهجِّرون أهل الداخل، ويكفي المرء أن يعلم أن اليهود هم الوحيدون في العالم الذين لا يبشِّرون بدينهم، لأنهم لا يريدون لأحد أن يكون معهم.

ثالثا: بناء على الانغلاق الثقافي الديني والموقف المبدئي من الأعراق والشعوب غير اليهودية، لا يمكن لهذه الشرذمة أن تندمج في غيرها من الشعوب، كما لا تسمح لغيرها من الشعوب بالاندماج فيها، وبالتالي فإن بقاءها في وسط لا يقبلها ولا تقبله غاية في الاستحالة، إما أن هذا الكيان يبتلع المنطقة كما يريد نتن ياهو بـ”إسرائيله الكبرى”، أو تزول هذه الدولة لأنها غير قابلة للحياة، إلا بـ”السيروم” الأمريكي والغربي، وذلك لا يدوم، لاسيما أن شعوب تلك الدول بدأت تستوعب المشكلة، فلا تسمح أن تتحول ضرائبها التي تدفعها لقتل الأطفال والنساء وتجويعهم.

رابعا: الصحوة التي يشهدها العالم اليوم بعد “طوفان الأقصى”، والتي كشفت عن هشاشة النظام الدولي، والتحولات التي سيشهدها العالم خلال السنوات القليلة القادمة، قد أعلنت عن انتهاء صلاحية المؤسسات الدولية القائمة: الأمم المتحدة، مجلس الأمن، محكمة العدل الدولية… إلخ، وهي في طريقها إلى تغيير الشكل الذي تسير به؛ بل إن الوضع لم يعد يسمح لـ”غساسنة” القرن الحادي والعشرين بمواصلة الانبطاح الذي فرضه سلام أنور السادات والسلطة الفلسطينية، وإنما سيشق طريقه في اتجاه آخر هو استئصال هذا الكيان.

خامسا: ورغم أن موازين القوة الدولية ليست في صالح زوال هذا الكيان، فإن واقعه الاقتصادي والاجتماعي، لا يسمح للعالم بالإبقاء على دعمه غير المشروط، فالهجرة العكسية تهدد الكيان بالانقراض، وعمليات التخريب والخسائر في الأرواح والعتاد والهزائم العسكرية والسياسية المتتالية، لا يمكن أن تسمح لأي نظام في العالم أن يضحي من دون مقابل.

لقد جاء في إحدى افتتاحيات صحيفة “هآرتس” وهي أكبر جريدة إسرائيلية بعنوان: “الحلم انتهى”: “الفلسطينيون أفضل شعوب الأرض في الدفاع عن أوطانهم”، وتقول أيضا “أثناء الحرب على غزة وإطلاق صواريخ المقاومة علينا، خسارتُنا كل ثلاث أيام تتعدى 912 مليون دولار مِن طلعات الطائرات وثمن صواريخ الباتريوت وتزويد الٱليات”. الغرب أيضا إذا كان دعمه لهذا الكيان من أجل الحفاظ على مصالحه، فإن مصالحه التي تتحقق يدفعها أو يدفع ضعفها للكيان، ومن ثم فالعملية خاسرة، والسياسة كما لا يخفى ليست مجاملات وإنما هي مصالح.

هذا هو منطق التاريخ الذي سيقضي على هذا الكيان حتما. أما المبررات الدينية، فإن اليهود المتدينون يرفضون أن تكون لهم دولة؛ لأنهم يعتقدون أنهم عصوا الله فعاقبهم بالشتات، ومن ثم لا يقيمون دولة ولا يسعون إليها، وإلا اعتبروا عصاة، فهم يعتقدون أن الذين سعوا لإقامة الدولة عصاة ومنحرفون، ولذلك يوجد في المجتمع الصهيوني، من طلبة المدارس الدينية من يرفض الالتحاق بالخدمة العسكرية، وأغلب الظن أن هذه الشريحة من اليهود التي تحمل هذا المعتقد، أنهم من المواطنين الأصليين في فلسطين، فهم فلسطينيون وليسوا قادمين من بلاد أخرى.

أما النصُّ القرآني فواضحٌ جدا في هذه المسألة كما جاء في سورة الإسراء (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا* فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا* ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا* إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا* عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) [الإسراء 4-8]. لقد تكلم المفسِّرون في معنى هذه الآيات وتحديد أزمنة ذلك، واتفقوا على أن لليهود عودةً إلى بيت المقدس ويفسدون ويصيبهم ما أصابهم في المرات السابقة من مطاردة وغلبة وهزيمة على أيد رجال أولي بأس شديد، وذلك قضاء من الله سبحانه (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ…).

إن الشواهد على زوال إسرائيل أكثر من أن تُحصى، ولكن مساحة المقال لا تسمح لنا بأكثر من هذا الموجز، ومن أراد الاستزادة، فليرجع إلى دراسات الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله في دراساته حول اليهودية والصهيونية، ويعود إلى الدراسات الاستراتيجية التي تُنشر بين الحين والآخر على يد دارسين استراتيجيين يهود وأمريكان، ولعل من أهم الدراسات في هذا الموضوع، ما ذكره المفكر السوداني الأستاذ أبو القاسم حاج حمد في كتابه القيم “الإسلامية العالمية الثانية”، وهي دراسة تبحث في خصوصيات العالمية الإسلامية الأولى، التي تنتهي بالقرن الرابع عشر الهجري، وتنطلق “الإسلامية العالمية الثانية” بموصفات جديدة وأبعاد جديدة للقرآن الكريم ومراميه، وفق منهجية معرفية للقرآن الكريم، تحقِّق مراد الله في الوجود، والتي ستتجسَّد بمعركة نهائية عربية إسرائيلية، ليعود الوصل من جديد بين بيت الله الحرام وبيت المقدس كما جمع بينهما محمد صلى الله عليه وسلم، وممَّا لا يجوز إغفاله هنا أيضا عملية الهجرة التي بدأت من فلسطين المحتلة إلى الخارج، بل إن استعدادات اليهود بقيت قائمة، ولذلك فإن جميع من يقيم بهذا الكيان يحمل جنسيتين، وكأنهم مستعدُّون للهجرة في أي وقت يتقرر الأمر، وهم شاعرون به ومستعدون له، أكثر من شعور الفلسطينيين بالاستقلال.

الشروق الجزائرية
التعليقات (0)