الانطباع والحقيقة:
هنالك كثير من المفاهيم تحولت إلى ما يشبه المصطلحات بعد التشوه في فهمها،
لهذا فإني ممن يعدون الفهم الصحيح أساس ومنطق عقل الأمور، وهو الضمير الذي به تحكم
على المحيط أو بيئة منظومتك -والإنسان منظومة- وما فيها.
وحصل هذا الخلل في الانطباع حتى على عهد الرسول عندما يحكم الناس بفهمهم ويظنون
أنه الصواب والحقيقة، ويبدأون بالتقييم والحكم على الآخرين من خلال فهمهم وهواهم،
فقيّموا فلانا أنه يعطي رياء، وفلانا يعطي أمرا لا يستحق أن يسمى عطاء وإنما هو
ليظهر أنه يحتاج الصدقة، فنزلت الآية: "الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ
لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (التوبة:
79).. حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسلم من هؤلاء الناس: "وَمِنْهُم
مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ
يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ" (التوبة: 58)، واليوم نجد الكثير ممن ينسون أنفسهم ولا يصلحوها ويتجهون إلى
الدخول في دواخل الناس وتأويل سلوكهم من خلال قناعاتهم وربما الإضرار بهم، وإن سألتهم
سيقولون: نحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، والحقيقة أنهم لا يتوقع شرا ممن
ينتقدونهم فأطلقوا لأنفسهم العنان، ولم يشكوا لحظة أنهم قد يكونون على خطأ وأن من
ينتقدهم على الصواب.
الانطباع عن العرف أنه السائد في المجتمع خطأ، وأنكر الإسلام هذا: "وَإِن
تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (الأنعام: 116-117). انظر إلى الحسم الذي لا يراه الرافضون
للآخر، المتعصبون لفهمهم ولا يناقشونه، وهم يسفّهون المختلف. إن الله أعلم بالضال
وأعلم بالمهتدي، لذا فالتوجه نحو التصويب والصيانة والتحديث لمعلوماتك وليس اعتبار
الرأي البشري وكأنه قرآن.
الانتباه للناس وسلوكهم ليس لنكون قضاة عليهم بل لاستطلاع إن كان ممكنا إعانتهم
ليعودوا إلى الصواب، فلربما الفعل ليس فعلا وإنما رد لفعل وأثر، والدولة نفسها
ينبغي عليها معالجة الإخفاقات الحياتية، وعندها من يخالف القانون في مجتمع مستقر
متكافل يعاقب، أما قبل ذاك فالإصلاح؛ ما لم يُحدث
سلوكه ضررا أو يشيع فاحشة.
فالحدود عندما توضع في قوانين وعلى إشاعة الفاحشة وضررها للمجتمع، هي ولا شك تنظر إلى
المستجدات، وهو ما فعله الراشدون في تطبيق الأحكام عندما أوقفوا وعطلوا بعض
الأحكام لمصلحة واقع الأمة، واليوم القانون علم متطور يمكن أن يدخل في تفاصيل
وحيثيات كثيرة.
التغيير المرعب:
نحن الآن في عصر التفاهة، وخطاب التغيير لا بد أن يخاطب هذه العقلية
والنفسية المنكسرة المستسلمة أو المتمردة العشوائية بفهم الفعل ورد الفعل والعجز
المتمثل بغودوا المنقذ الذي لن يأتي يوما لينقذ القرية. الحكومات التي رافقت
الاحتلال (القرون الماضية)، كانت أدوات تنفيذية ترعى المزرعة، فالتطور والإدارة
والعوامل المتعلقة بتحسين النوع والإنتاج كان في الحسبان لكي لا تكون عالة إدارية
أو عسكرية على المحتل؛ المهم الولاء والصيغ من الحكم ما يوافق
ثقافة البلاد
وتبجيلها للحاكم، خصوصا في المناطق المتنوعة إثنيا، أو غيره ذلك.
فحكومة كحكومة العراق الملكية كانت واعدة قابلة للتطور ضمن منهج بريطانيا
في إدارة المستعمرات وتوظيف الأهالي ببرنامج خدمي ما زال مستمرا أي لا تلامس
الهوية مباشرة وإنما تثبطها، إلا أن سياسة المحتل الفرنسي خلقت عداء لأنه يلامس
الهوية والثقافة ويلغي أهل البلاد علنا. أما بريطانيا فكان لها أسلوبها في
الاعتماد على الشعوب وإخراج حكومات تجمع الكل تحت خيمتها، غير أن نجم الإمبراطورية
أفل وأضحت إدارتها مكلفة، فكان التفكيك ضروريا لإبقاء التخلف وإلا فتمدن متطور غير
مسيطر عليه قد يُحدث ما يفوق التصور.
ورأينا نموذج التغيير المرعب الذي لا يملك من قام به أي رؤية أو حتى ثقافة
عامة كافية، فبقيت الدولة كمؤسسات تسيّر المجتمع ولم يك هنالك إرادة أو محاولة
لتغيير نمط إدارتها، غير الأفكار التي باتت تتكاثر وتتنوع وتتصارع من أجل التمكن
من السلطة لتحقق أيديولوجياتها، والتي غالبا كانت تقليدية وحسب فهم دعاتها لها لكن
بلا رؤية واضحة، فكان هذا الصراع في المعتقدات التي قسمت المجتمع بين أفكار قومية
متعددة ومتصارعة حتى في القومية الواحدة بل في البيت الواحد وهكذا الليبرالية
والاشتراكية بأفهامها، ثم الإسلامية ومشاربها، وكلها تتحرك من باب امتلاك الحقيقة
وليس من خلال رؤية واضحة للمجتمع والدولة. فلا توجد قدرة للجلوس للتفاهم وإنما
قادة وتعظيم القادة والرموز، فلم يعد عيبا أن تمجد الرموز فتجعل منهم طغاة كالنار وأول
من تحرق القريب منها، فتكررت التغييرات وتكرر سفك الدماء والانتقام والإعدام
والسجون، فكانت المؤسسات الحكومية وقد دخل أفرادها في هذا الإعصار عناصر هدم لا
تنظر إلى الكفاءة والخبرة أو تنميتها وإنما إلى الولاء، وهنا تتنوع الولاءات وأنواعها
واستغلال هذا الفتق في المؤسسات الذي نراه اليوم بوضوح فلا ترى إعمارا بل هدما
ودمارا.
خلاصة القول إن هنالك آلات هدم وبرامج هدم وثقافة هدم مرافقة للتغيير، فكان
كل تغيير يمثل رعبا ثم استرخاء لبعض الوقت ثم قهرا جديدا، ودوما هنالك تدن في
النوعية. من هنا أتى سيناريو حقيقي بأن اليوم أفضل من غد! والناس تعودوا أن يغازلوا
الوهم بالعجز وأن ينتظروا الفرج وأن ينتظروا الأمل، وتحور معنى الصبر ومعنى العمل
وأصبح الناس يقتلون الأمل لأن الأمل حركة تغيير والناس يريدون السكون والانتظار،
فهم من يعينون الظالم على من يثور عليه لأجلهم، يسفهّونه ويقتلونه ولا يفهمونه لأنهم
لا يريدون أن يفهموه، ويحسسهم الطغاة بالسكون لأن عجزهم يصبح حكمة، فالكل يخاف
والكل ساكن والكل مستباح.