ليست الحكايات الكبيرة وحدها ما يحرّك ضمير العالم، بل أيضاً التفاصيل الصغيرة التي تحمل صدق الألم وعظمة الفقد.
هكذا أطلّت علينا الطفلة
هند رجب بعد رحيلها المؤلم، وهكذا رحل الطفل عبد الرحيم الجرابعة، ليصبح الطفلان رمزين لجريمة الإبادة في
غزة وشاهدين عليها، وفي الوقت ذاته مصدرين لتحوّل حقيقي في وعي العالم تجاه وصول العدالة للشعب الفلسطيني.
لم تكن هند رجب مجرد طفلة فقدت حياتها في حرب الإبادة، بل تحوّلت قصتها إلى أيقونة عالمية بعد أن خُلدت في فيلم صوتها وصورتها ومعاناتها.
من خلال الفيلم، الذي تم عرضه على شاشة مهرجان البندقية السينمائي، فاتحاً الأبواب أمام وصوله إلى مهرجان الأوسكار.
لقد نقل فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية صوت الطفلة هند رجب وصورتها ومعاناتها في الساعة الأخيرة قبل الموت عبر الشاشة.
من خلال الفيلم، انكشف للعالم الوجه العاري للجريمة المرتكبة بحق الأطفال في قطاع غزة، وأيقظ مقتل هند رجب وعياً جمعياً واسعاً جعل الملايين من جماهير وفنانين ومشرّعين، ينظرون إلى غزة بعين أخرى أكثر إنسانية وأشد رفضاً للظلم.
لقطة ثانية صنعت اللحظة، حين قبّل الطفل عبد الرحيم الجرابعة يد أحد المتعاقدين من مؤسسة غزة الإنسانية بعد حصوله على حفنة من العدس والأرز، تحوّل عبد الرحيم، الذي لُقّب لاحقاً بأمير، إلى شاهد دامغ على سياسة التجويع الممنهج.
لم يبقَ المشهد محصوراً في وسائل الإعلام، بل هزّ ضمير الأميركي المتعاقد مع المؤسسة أنتوني أغيلار، ودفعه إلى إعلان استقالته من مؤسسة غزة احتجاجاً عليها كجزء من عملية الإبادة وعلى الدور المباشر للاحتلال في إفشال مهمات الإغاثة وتجويع غزة.
اكتشف المتعاقد الأميركي حقيقة دور المؤسسة وتواطئها مع
الاحتلال، فاعتبرها إحدى مؤسسات الإبادة الجماعية ما دفعه إلى تغيير قناعاته ويصبح أحد الناشطين في الحراكات الجماهيرية في الولايات المتحدة وأحد الشهود على الحقيقة.
فلم يعد الطفل اليتيم عبد الرحيم مجرد طفل جائع يسعى إلى الحصول على الغذاء لعائلته، بل أصبح رمزاً للكرامة المهدورة ومفتاحاً للتغيير، ودليلاً حيّاً على أن التجويع أداة قتل وحرب بعيداً عما يشيعه الاحتلال بأنها نتيجة عابرة للحصار، بعد أن فضح الطفل بقبلته البريئة المجاعة، وحول المأساة إلى ذاكرة جماعية.
التاريخ يخبرنا أن صورة واحدة قد تغيّر وجه الحروب: الطفلة الفيتنامية كيم فوك، التي عُرفت «بفتاة النابالم» وهزّت ضمير العالم بصورتها وهي تركض عارية وسط النيران، ساهمت في تقويض الحرب على فيتنام.
كما كان لصورة الطفلة اليابانية «ساداكو ساساكي»، التي نجت من قنبلة هيروشيما ثم رحلت بعد إصابتها بالسرطان، وتحوّلت الفتاة إلى رمز عالمي ضد السلاح النووي.
اليوم وبعد 700 يوم على المقتلة، يقف صوت هند رجب وقبلة عبد الرحيم الجرابعة مع آلاف الأطفال الغزاويين الذين قتلوا عن سبق إصرار وترصد في صف هذه الرموز الإنسانية الكبرى، ليذكّرا العالم أن مأساة غزة ليست شأناً محلياً، بل امتحان أخلاقي وقضية عالمية تمتحن ضمير البشرية.
هند رجب وعبد الرحيم الجرابعة، كلٌ بطريقته، غيّرا اتجاه الريح، مظلومية هند وصوتها حرّكت الوعي بالصورة والذاكرة عبر السينما، وعبد الرحيم فضح بقبلته الخالدة الجوع باللقطة المباشرة والدمعة الصامتة.
كلاهما أخرج المأساة من إطار الأرقام والإحصاءات إلى وجوه وأسماء حقيقية، يصعب إنكارها أو تجاهلها.
موت الأطفال في غزة بدأ يدفع الرأي العام العالمي إلى إعادة النظر في المعادلات الثابتة، نحو المطالبة بالعدالة للفلسطينيين، والاعتراف بأن القضية الفلسطينية ليست شأناً سياسياً فحسب، بل مسألة إنسانية كونية.
وأخيراً، من هند رجب التي أيقظت الضمير العالمي، إلى عبد الرحيم الجرابعة الذي كشف حقيقة المجاعة، يعلّمنا أطفال غزة أن الكبار قد يتقاعسون، لكن الأطفال قادرون على إعادة تعريف العدالة.
قصصهم ليست مجرد حكايات، بل صرخة مفتوحة في وجه العالم كي يتحرك، ويدرك أن العدالة للشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره جزء لا يتجزأ من العدالة للإنسانية بأسرها.
الأيام الفلسطينية