مع تصاعد الدعوات في الاحتلال الإسرائيلي لفرض السيادة على
الضفة الغربية المحتلة، عاد ملف التطبيع العربي مع الاحتلال إلى الواجهة، بعد أن تحول إلى عبء سياسي على بعض العواصم الموقعة على اتفاقيات التطبيع مثل أبراهام، في وقت تتزايد فيه الإدانات العربية الرسمية، ويحتدم الجدل الإقليمي حول مستقبل هذه العلاقات في ظل اتجاه الاحتلال الإسرائيلي نحو الضم الكامل٬ بالإضافة إلى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة والذي يدخل عامه الثاني.
نتنياهو يؤجل تحت الضغط
ذكرت صحيفة
جيروزاليم بوست الإسرائيلية أن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أرجأ نقاش فرض السيادة على أجزاء من الضفة الغربية في اجتماع أمني عُقد الخميس، عقب تحذيرات إقليمية ودولية، من أن الخطوة تمثل "خطاً أحمر" يهدد مستقبل اتفاقيات التطبيع.
وبحسب تسريبات إسرائيلية، ستتركز اجتماعات الحكومة المقبلة على "الوضع الأمني المتفجر" في الضفة الغربية، تزامنا مع جلسة مرتقبة للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تستعد عدة دول غربية للاعتراف رسمي بدولة فلسطين، ما أثار قلقاً واسعاً في أروقة الاحتلال.
الإمارات: تهديد مباشر لـ"اتفاقيات أبراهام"
وحذرت الإمارات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أن تنفيذ خطة الضمّ سيؤدي إلى "إلحاق ضرر بالغ لا يمكن إصلاحه" بالعلاقات الإماراتية الإسرائيلية، وسيقوض رؤية "الاندماج الإقليمي".
ونقل موقع
أكسيوس عن مسؤول إماراتي رفيع قوله: "الخيار أمام إسرائيل الآن هو الضم أو الاندماج، لكن لا يمكن الجمع بينهما. الضم سيكون رصاصة الرحمة على حل الدولتين، ولن يقنع أحداً بأن موجة الاعترافات القادمة بفلسطين مبرر لارتكاب هذه الخطوة"، مشدداً على أنّ بلاده ترى أن التطبيع لا يمكن أن يستمر إذا مضى الاحتلال في "شرعنة الضم".
ويذكر أن أبوظبي كانت أول دولة عربية تُدين هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كما حافظت على علاقات متينة مع الاحتلال الإسرائيلي طوال حرب غزة، من استقبال عدد من الوزراء بالإضافة إلى رئيس الاحتلال إسحاق هرتسوغ٬ بل وتعاونت معها في صياغة خطط "ما بعد الحرب". لكن يبدو أن الخط الأحمر بالنسبة للإمارات يتمثل في المس بالضفة الغربية٬ وفق مساعدة وزير الخارجية الإماراتي للشؤون السياسية ومبعوثة وزير الخارجية بدرجة وزير لانا نسيبة في مقابلتها مع موقع "تايمز أوف إسرائيل".
مصر: تحذير من "تقويض مقومات حياة الفلسطينيين"
من القاهرة، جاء الموقف المصري متحفظا٬ لكنه لا يقل حدة في الإدانة. فقد أعربت وزارة الخارجية عن رفضها القاطع لتصريحات مسؤولين إسرائيليين بشأن الضم، ووصفتها بأنها "منافية للقانون الدولي، وهادفة لترسيخ الاحتلال غير الشرعي للأراضي الفلسطينية".
وحذرت الخارجية المصرية من أنّ الخطوة الإسرائيلية تأتي بالتوازي مع "جرائم مستمرة في قطاع غزة"، معتبرة أنّ المسارين ـ الضفة وغزة ـ يكشفان عن "مخطط متكامل لتصفية القضية الفلسطينية عبر القضاء على مقومات وجود الشعب الفلسطيني".
ويكتسب الموقف المصري بعداً إضافياً، كون القاهرة أول دولة عربية توقع اتفاق سلام مع الاحتلال الإسرائيلي في كامب ديفيد عام 1978، ما يجعلها أمام اختبار دبلوماسي صعب بين التزاماتها التاريخية ومكانتها الإقليمية كوسيط رئيسي بين الفلسطيني الإسرائيلي٬ يرفض تهجير الفلسطينيين ويسعى لإبرام صفقة تنهي حرب الإبادة في غزة.
الأردن: "لا سيادة للاحتلال"
أما الأردن، الشريك العربي الثاني في اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، فقد جاء موقفه أكثر وضوحا، إذ أدانت الخارجية الأردنية تصريحات وزير العدل الإسرائيلي ياريف ليفين، ووصفتها بأنها "خرق فاضح للقانون الدولي، واعتداء مرفوض على حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على خطوط الرابع من حزيران 1967".
وأكدت عمان أنّ "لا سيادة لإسرائيل على الأرض الفلسطينية المحتلة"، محذرة من أن خطوات الضم ستؤدي إلى "تفجير المنطقة وإعادة إنتاج دوامات العنف".
ويواجه الأردن معضلة خاصة، فهو الأكثر تأثراً بأي تحولات في الضفة الغربية بحكم الجغرافيا والديموغرافيا، ويعتبر أن المس بالقدس أو بمستقبل الأراضي المحتلة يهدد مباشرة أمنه القومي ووصايته على المقدسات.
المغرب.. صمت رسمي وغضب شعبي
بالنسبة للمغرب، الذي وقع اتفاق التطبيع الثلاثي مع الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر 2020 مقابل اعتراف واشنطن بـ"مغربية الصحراء"، فإن موقف الرباط من ملف الضمّ اتسم بالصمت الحذر حتى الآن.
مصادر دبلوماسية مغربية تحدّثت لوسائل إعلام محلية عن "قلق بالغ من التصريحات الإسرائيلية"، لكنها لم تُسجّل إدانة رسمية مماثلة لمواقف الإمارات أو مصر أو الأردن. ولكن الشارع المغربي لم يكف عن التظاهر والخروج رفضا لما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي من تطهير عرقي وإبادة بحق الشعب الفلسطيني في غزة.
اظهار أخبار متعلقة
البحرين.. التزام بالموقف الخليجي
على غرار المغرب، لم تُصدر المنامة ـ التي لحقت بالإمارات في اتفاقيات أبراهام عام 2020 ـ موقفاً مباشراً حتى الآن. لكن مسؤولين بحرينيين يؤكدون أنّ بلادهم "تتمسك بالموقف الخليجي والعربي الداعم لحل الدولتين"، ما يُفهم منه أن أي تحرك إسرائيلي يتناقض مع هذا الحل سيُعتبر خرقاً للتفاهمات الضمنية.
غير أن البحرين، بحكم صغر حجمها الجغرافي وتأثيرها السياسي، غالبا ما تتحرك في ظل الموقف الإماراتي ـ السعودي، ما يجعل تحذيرات أبوظبي بمثابة مظلة خليجية غير معلنة ضد الضمّ.
وفي نهاية آب/ أغسطس الماضي٬ سلمت المنامة أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد شموئيل ريفيل، لوزير خارجيتها عبد اللطيف بن راشد الزياني، في خطوة أثارت انتقادات واسعة كونها تتزامن مع استمرار المجاعة والإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة.
السلطة الفلسطينية: "مخططات إبادة"
من جانبها، أدانت وزارة الخارجية الفلسطينية بشدة تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش التي دعا فيها إلى ضم 82% من الضفة الغربية، ووصفتها بأنها "امتداد لسياسات الإبادة والتهجير".
وطالبت السلطة الفلسطينية المجتمع الدولي بفرض عقوبات صارمة على إسرائيل لوقف "استفرادها بالشعب الفلسطيني"، مؤكدة أن جميع إجراءات الاحتلال أحادية الجانب "غير قانونية وباطلة".
التطبيع تحت المجهر
إعادة طرح مسألة ضم الضفة الغربية بهذا التوقيت الحساس، مع تزايد الاعترافات الدولية بدولة فلسطين، وضعت الدول العربية المطبعة في مأزق استراتيجي. فمن جهة، تواجه هذه الدول انتقادات داخلية متصاعدة تعتبر التطبيع "خيانة للقضية الفلسطينية"، ومن جهة أخرى، فإن المضي الإسرائيلي في الضم يفرغ اتفاقيات التطبيع من مضمونها ويحولها إلى "شراكة شكلية" مع كيان يصر على التوسع والهيمنة.
كما يستغل الاحتلال الإسرائيلي حالة الانقسام العربي وضعف الموقف الدولي لتمرير مخططات الضم، لكنها تصطدم هذه المرة بمعادلة جديدة٬ وهي التطبيع مقابل الضفة، وهي معادلة تهدد بانهيار أحد أهم مكاسبها السياسية في العقدين الأخيرين.
التطبيع بين التاريخ والسياسة
جدير بالذكر فإن ملف التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي ليس جديداً. فقد بدأ باتفاقية كامب ديفيد عام 1978 بين مصر والاحتلال الإسرائيلي، ثم معاهدة وادي عربة مع الأردن عام 1994، قبل أن تدخل المنطقة مرحلة جديدة مع توقيع اتفاقيات أبراهام عام 2020 بوساطة أمريكية، التي شملت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
وكانت واشنطن تعول على ما اسمته أن “السلام الاقتصادي” سيقود إلى دمج الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، رغم استمرار الاحتلال وتوسيع الاستيطان. ومع تصاعد خطاب الضم، يبدو أن هذا الرهان يتهاوى أمام حقيقة أن الاحتلال ماض في مشروعه التوسعي بلا سقف سياسي أو أخلاقي.
ويعد ما يجري اليوم ليس مجرد جدل سياسي حول الضفة الغربية، بل هو اختبار وجودي لاتفاقيات التطبيع العربية مع الاحتلال. فإذا مضت حكومة نتنياهو في فرض السيادة، فإن الدول العربية المطبعة ستجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر: إما الاستمرار في علاقة مُكلفة شعبياً وأخلاقياً مع الاحتلال الإسرائيلي، أو التراجع عنها بما يحمله ذلك من تداعيات استراتيجية مع الولايات المتحدة والغرب.
لكن من المؤكد أن ضم الضفة الغربية لن يكون مجرد خطوة إسرائيلية أحادية، بل لحظة فاصلة في مستقبل العلاقات العربية الإسرائيلية، وقد يتحول إلى شرارة لإعادة خلط أوراق المنطقة برمتها.