مقالات مختارة

حرب إبادة غزة والنظام المصري الحائر

يحيى مصطفى كامل
رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي - الأناضول
رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي - الأناضول
بين التعجب والغيظ، النقمة والغضب، تراوحت ردود الأفعال على خبر توقيع الدولة المصرية (أو النظام فسيانٌ كلاهما) صفقة لاستيراد الغاز الطبيعي من الكيان المحتل إزاء الطلبات المتزايدة وتراجع الإنتاج المحلي. قبل ذلك كان السيسي قد انتقد إسرائيل في سابقةٍ واصفاً الحرب بما هي بالفعل: إبادة.

في المقابل فإن إعلاميين كثيرين محسوبين على النظام (أو غير بعيدين عنه في أقل تقدير) لا يفعلون شيئاً تقريباً سوى الهجوم على حماس وتحميلها مسؤولية كل ذلك القتل والدمار، كأن هناك شيئاً في الدنيا من شأنه أن يبرر جرائم إسرائيل قرابة العامين، أو كأن تلك الحملة الممنهجة لتصفية سكان القطاع قتلاً وتهجيراً، ومن ثم قطع شوطٍ (لعله الأطول والأهم) على طريق تسوية القضية برمتها عن طريق إفناء المادة البشرية (في استعادةٍ لوصفة هتلر في تصفية «المسألة اليهودية»).

من الطبيعي أن يشعر البعض بالحيرة والبلبة إزاء ما قد يبدو للوهلة الأولى من تناقض، خاصةً في ظل يقينٍ بأن الموقفين، أو الخطابين، صادران عن المصدر نفسه، وبتوجيهاتٍ من «الضابط» نفسه.

أعترف بأنني شعرت بحيرةٍ مشابهة للوهلة الأولى، إلا أنني توصلت بعد تفكيرٍ إلى أن الحيرة، المبررة تماماً، والتضارب ليسا عارضين، وإنما يعبران عن حيرة النظام نفسه وتخبطه، أو السيسي تحديداً إذا شئنا الدقة. «من الذي يحكم مصر ويصدر هذه القرارات؟»، سؤالٌ مطروحٌ دائماً، لا يكاد يخبو إلا ليثور ويعلو بصورةٍ دورية لدى كل حماقةٍ فاقعة، أو انهيارٍ في سعر صرف العملة، أو ما شابه من انتكاسات. هو تعريضٌ أكثر منه سؤالا، واتهامٌ وإدانة أكثر منهما محاولةً للفهم، أو الاستيضاح، أو الرغبة في المعرفة الصادرة عن جهلٍ حقيقي، فالكل يعلم من الذي يحكم ويصدر القرارات المصيرية، ويختار المنحى والانحياز الاقتصادي منذ يوليو 52.

لا شك أن في مصر مؤسسات، وفي ما يخص الشأن الخارجي، فقد تمتعت دائماً بجهازٍ توفرت له كوادر على قدرٍ عالٍ من الكفاءة والمعرفة، كما تمتع الكثير منهم بحضورٍ لافت، فكانوا ذوي رؤيةٍ وشخصياتٍ آسرة (بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معها) والثابت أن أبحاثاً ودراساتٍ دائماً ما توفرت لصانع القرار من شأنها أن تشرح وتوضح، بما قد يمكنه ويفيده في الفهم، ومن ثم صنع القرار، هذا بالطبع ما توفرت الإرادة والقابلية للفهم والرغبة في اتخاذ القرار الأصوب، الذي من شأنه أن يصب في مصلحة البلد، مصر ومستقبل ساكنيها. وهنا تكمن المشكلة…

ففي ظل نظامٍ كالمصري حيث سلطات وصلاحيات الرئيس غير محدودة، وحيث يصبح بقاؤه بصورةٍ شخصية، ومن ثم النظام، الهدف الأسمى، فكثيراً ما تخطى الرئيس كل تلك التحليلات والرؤى والتوصيات، فاتخذ ما يراه هو مناسباً، او انصياعاً لإملاءات، أو «نصائح» الخارج. لقد شهدنا أمثلةً شهيرةً مدويةً لذلك، لعل أقربها إلى ذهني محمد إبراهيم كامل وإسماعيل حسني، اللذان استقالا من وزارة الخارجية حين اختلفا وافترق طريقهما عن السادات، إبان مباحثات السلام مع إسرائيل.

ربما كان الأمر أيضاً مختلفاً نوعياً آنذاك، كون عبد الناصر والسادات مسيسين حتى النخاع قبل أن يصلا إلى سدة الحكم، إلا أن الأمر تدهور مع من عقبهما من الضباط، الذين صاروا رؤساء بالتراتبية العسكرية، ومن ثم الصدفة، أو الانقلاب البليد.

لقد داهمت هذه الحرب السيسي، اقتحمته اقتحاماً، هو غير مستعدٍ لها بأي معنى من المعاني الأعمق من مجرد الجهوزية العسكرية، لمنع أعدادٍ من الفارين التي قد تحاول اقتحام الحدود، لا يخفى على أحد أنه لم يأتِ من خلفيةٍ سياسية، ويكفي أن تسمعه يتكلم لتدرك مدى محدودية مداركه وضحالة ثقافته. هو غير محيطٍ على الإطلاق بأبعاد هذه القضية ولا بمغزاها، لقد جاء السيسي إلى السلطة تعبيراً عن تحالف مصالح أهم أطرافه القوات المسلحة ممثلةً للدولة العميقة، وبعض دول الخليج التي مولته لتثبيت الحكم السلطوي في مصر ووأد جذوة الثورة.

منذ اليوم الأول عمل مخلصاً لتثبيت النظام وسحق كل مظاهر الحراك السياسي ببطشٍ لم تعرف له مصر سابقةً، مصحوباً بضجيجٍ ومشاريع ظاهرها الإلهاء وباطنها السمسرة والربح والريع الذي يصب في شركات القوات المسلحة.

لقد راهن منذ اليوم الأول على التحالف مع إسرائيل والتنسيق الأمني معها، بل في النظر إلى حماس كونها عدواً مشتركاً في فترةٍ من الفترات. لذا فحين اندلعت هذه الحرب أُسقط في يده بين الرغبة الغريزية للإبقاء على العلاقة المتميزة مع إسرائيل، على حساب الفلسطينيين حمايةً للذات (وفق تصوره القاصر) والضغط الرهيب الواقع عليه مع مشاهد الدمار وطوابير الأطفال الجوعى على أبواب مصر.

وفق كل الشواهد يتمنى لو أن الحرب لم تقع، ولم يوضع في هذا المأزق، لكن شعباً عربياً، على سلبيته، تبعث إسرائيل فيه الروح بما تشحنه من غضبٍ أسود إزاء بشاعة الإبادة والتطهير العرقي والإهانة بغطرسة القوة، وهذا يضغط عليه ليقوم بشيء مما يُتوقع من مصر. لعله يتمنى لو أن إسرائيل أنهت مهمتها سريعاً و»خلصته» (تشاركه في ذلك كثيرٌ من دول الخليج)، لكن ذلك لا يحدث، كما أن تهور وحماقة اليمين الإسرائيلي المتطرف يزيد المحنة سواداً والأمور تعقيداً، بما يصدرون من تصريحات تزعج بقدر ما توقظ وتخيف الجمهور المصري، كما أنني على يقين من أن السيسي، وإن لم يكن يسمع النصح من قبل، فإنه في شأن غزة والحرب لا بد أنه يُشار عليه من قبل أجهزة أمنه وجيشه، وأنه يستمع على الأقل، وفي عداد هؤلاء لا بد من وجود عقلاء وأذكياء.
ثوب مصر أكبر بكثير من السيسي

في الحقيقة، وبصياغةٍ أخرى، فإن السيسي، الرجل الضئيل، في مأزق بين مصالحه الشخصية ومصالح أفسال مشيخات الزمن الغابر، الذين علا نجمهم في زمن الهزيمة والانتكاس وانحسار مشروع النهضة والتحديث العربي (أياً كانت تحفظاتنا عليه) وبين ما تفرضه عليه استحقاقات التاريخ والجغرافيا النابعة والمتجذرة من وجود مصر وكيانها الضارب في عمق التاريخ وتربة هذه المنطقة – المفترق العالمي.

إن ثوب مصر أكبر بكثير من السيسي، ولئن كنت لا أرى سوى الديمقراطية والحريات مستقبلاً ومخرجاً، فإنني على يقين من احتياج مصر، بل وحقها لكل الاعتبارات، إلى قاماتٍ أكبر قادرة على الاضطلاع بمهامها ودورها التاريخيين.

لا أستطيع التنبؤ بما ستحمله الأيام المقبلة، إلا أنني للأسف لا أرى السيسي والدولة المصرية من ورائه سوى قابعين في خانة رد الفعل، حريصين ما استطاعوا على الحفاظ على العلاقة المتميزة والمحورية مع إسرائيل، مدفوعين دفعاً، رغماً عنهم وعن محاولاتهم، لإصدار أي تصريحاتٍ تصب في خانة الحق الفلسطيني.
غير أن عجلة التاريخ قد تحركت، وإنني أراهن على أن تضحيات الشعب الفلسطيني ودمه وجراحه ستغير مسار التاريخ، كما رؤي وأُريد لها.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل