مقالات مختارة

مسغبة في غزة

محمد أبو الروايح
جيتي
جيتي
تواصل إسرائيل عدوانها على أهل غزة للشهر الثاني والعشرين على التوالي، من القتل المفرط إلى التجويع المنهجي الذي يقرّب إلى كل لبيب الصورة الحقيقية للمسغبة التي يتحدث عنها القرآن الكريم وما تقتضيه من واجب تحرك المحسنين لإطعام الجائعين كما يقول الله تعالى: “أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة” (البلد 14).

إن صورة “المسكين ذا متربة” التي يرسمها النص القرآني، تتجلى اليوم بكل وضوح في ضحايا سياسة التجويع المنهجي التي تنتهجها إسرائيل ضد السكان المدنيين في غزة، صورة يتطابق فيها النص المجرد مع الواقع المعيش.

ما كان لمسغبة غزة أن تحدث لولا غياب العدالة والكرامة الإنسانية في عالم يحتكم إلى منطق القوة ولا يحتكم إلى منطق الفطرة، عالم لا يحكم بالقسطاس المستقيم، ينحاز إلى الظالم ويبخس المظلوم، يرفل فيه المترفون في النعيم ويذوق فيه المستضعفون ألوان الجحيم.

وما كان لمسغبة غزة أن تحدث لولا الخلل الكبير الذي أصاب المجتمع الإسلامي، الذي اختفت فيه قيم النصرة والتكافل والتعاون وطغت عليه الفردية المفرطة وأصبح الاهتمام بأمر المسلمين من نافلة القول.

وما كان لمسغبة غزة أن تحدث لولا تخلي الأمة الإسلامية عن واجبها في الدفاع عن المسلمين ولولا تملصها من حبل الدين ووقوعها في أحابيل شياطين الإنس والجن. وما كان لها أن تحدث لو كان في الأمة الإسلامية أمثال عمر الفاروق وصلاح الدين. وما كان لمسغبة غزة أن تحدث لولا ازدواجية المعايير التي يتعامل بها ما يسمى “العالم الحر” مع شعوب العالم الأول وشعوب العالم الثالث. وما كان لمسغبة غزة أن تحدث لو بقيت فينا نحن العرب نخوة العربي الذي ينصر أخاه ظالما أو مظلوما واستمرت فينا قيم: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”.

أليس من الردة أن يتغنى ما يسمى “العالم الحر” بمبادئ حقوق الإنسان، وحقوق الغزيين تدوسها “عربات جدعون” في تحد صارخ للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني؟ أليس من الردة أن يصمت “المجتمع الدولي” عما يرتكبه نتنياهو في غزة من إبادة جماعية لا تبقي ولا تذر، تمنع عن أهل غزة الطعام والشراب وتحجب عنهم الغذاء والدواء وحتى الهواء لو استطاعت إلى ذلك سبيلا؟ أليس من الردة أن يقف المجتمع الدولي عاجزا عن وقف حرب التجويع التي يمارسها الكيان الصهيوني ضد سكان غزة؟ 

أليس من الردة أن تعجز أمة كبيرة بحجم الأمة الإسلامية من (طنجة إلى جاكرتا) عن إطعام الجياع وإغاثة الملهوفين في غزة؟. أليس من الردة أن يموت الغزيون جوعا في الوقت الذي تمتلئ فيه حاويات القمامة بما لذ وطاب من أصناف الطعام الذي عافه أصحابه بعد أن امتلأت أمعاؤهم وأصابتهم التخمة؟. أليس من الظلم أن يموت الرضع في غزة جوعا بل وتموت الأجنة في بطون أمهاتها ورضع الغرب تقام لهم احتفالات عيد الميلاد ويغدق عليهم بالهدايا والعطايا؟

أليس من المؤسف أن تتجدد حكاية (شُعب أبي طالب) في غزة فلا يجد الناس ما يأكلون حتى الحشائش لم تعد متاحة لكثرة الطلب عليها؟.

إننا في عام الرمادة وعام المسغبة، فما أحوج الأمة الإسلامية إلى زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي مرّ بعجوز ومعها أطفال جياع وقد وضعت حجارة في قدر لتصبّرهم فهرع رضي الله عنه بنفسه إلى بيت مال المسلمين وأخذ كيس الدقيق وقال لحارس المخزن احمل عليّ هذا الكيس. فقال: يا أمير المؤمنين أأحمله لك أم أحمله عليك؟ فقال احمله عليّ، فكبُر على الحارس أن يحمل عمر رضي الله عنه الكيس وقال: بل أحمله عنك يا أمير المؤمنين فقال له عمر: وهل تحمل عني أوزاري يوم القيامة؟ وانطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالكيس حتى وصل إلى خيمة العجوز  فجهّز الطعام وطفق ينفخ عليه في النار حتى نضج فلم يبرح المكان حتى أكل الأطفال وشبعوا وأخلدوا إلى الراحة وكانت الأم تمدحه وتدعو على عمر وهي لا تدري أنه عمر فتقول: قبَّحه الله أيتولى أمرنا ويغفل عنا؟ لقد اشترى عمر رضي الله عنه من المرأة العجوز مظلمتها كما فعل مع العجوز العمياء التي أتاها فسلّم عليها وسألها: ما فعل عمر؟ فقالت: لا جزاه الله خيرا، قال: ولمَ؟ قالت: لأنه ما نالني من عطائه منذ ولي أمر المؤمنين دينارٌ ولا درهم.. فبكى عمر ثم قال: واعمراه كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر، ثم قال لها: بكم تبيعني مظلمتك؟ واشتراها منها بخمسة وعشرين دينارا وأشهد على ذلك علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، ثم رفع عمر رضي الله عنه الكتاب إلى ولده وقال له: “إذا أنا متّ فاجعله في كفني لألقى به ربي”.

في غزة اليوم شعب كامل يكابد المجاعة ويرفع عقيرته ويجأر إلى الحكام فهل سيجد منهم استجابة في يوم ذي مسغبة؟ إننا لا نسيء الظن بحكامنا ولكننا نهيب بهم أن يبذلوا ما في وسعهم لرفع الغبن عن أهل غزة الذين أصابهم من الغم ما أصابهم والذين يتعرضون لحملة تجويع مروّعة تزداد حدة يوما بعد يوم.

ما أحوجنا إلى زمن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي روي عنه أنه كان يقول لعماله في الأقاليم: انثروا القمح على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين. إذا كان هذا صنيع عمر بن عبد العزيز مع الحيوان فأين نحن من فعل هذا مع الإنسان الغزي الذي لا يجد ما يأكله بسبب الحصار الخانق الذي فرضه الاحتلال الصهيوني على المنافذ والمعابر معرِّضا شعبا بأكمله للموت البطيء؟.

تمنع إسرائيل دخول المساعدات إلى قطاع غزة، ويوجِّه جنودها بنادقهم وفوهات المدافع والمدرعات صوب الجموع الذين برح بهم الجوع فيرتقي منهم في كل يوم شهداء، عاشوا جياعا وماتوا جياعا. إن كل الأمة الإسلامية آثمة إذا كانت تستطيع أن تفعل ولا تفعل أو أحجمت عن المساعدة لأنها تخشى على نفسها من غضب فلان أو علان.

إن رفع الحصار عن غزة أولوية قصوى لا تتحقق إلا بتضافر جهود المجتمع الدولي وفق هذا المخطط:

1- تكثيف الضغط الدولي على الكيان لحمله على وقف عمليات الإبادة والتجويع التي بلغت ذروتها في ظل سياسة نتنياهو الرامية إلى تعويض الهزيمة العسكرية بعمليات القتل العشوائي للمدنيين. إن الضغط الدولي على الكيان لن يكون له جدوى إلا إذا استعاد المجتمع الدولي دوره السيادي.

2- إقناع الدول الوازنة في مجلس الأمن الدولي بضرورة وقف كل أشكال المعاملات الاقتصادية والعسكرية مع الكيان الصهيوني، ونسجل في هذا المجال استجابة بعض الدول لهذا المطلب على غرار الصين وروسيا ولكنها تحتاج إلى تفعيل أكبر وتفاعل أكثر من المجتمع الدولي.

3- يمكن لدول الطوق (لبنان وسوريا والأردن ومصر)، القيام بدور فعال في تخفيف المعاناة الإنسانية داخل قطاع غزة، وللأردن على سبيل المثال تجربة في ذلك من خلال الجسر الجوي الذي أقامته لإغاثة سكان غزة ويمكنها مع دول الطوق الأخرى استئناف هذه العمليات الإنسانية.

4- في إسرائيل أحزاب وتيارات يهودية رافضة للصهيونية وللعدوان الصهيوني على غزة، يمكنها أن تشكل عامل ضغط داخل الكيان لحمله على وقف مسلسل الإبادة الجماعية في غزة. ورغم التأييد الذي يحظى به نتنياهو من أحزاب اليمين المتطرف إلا أن هذه الأحزاب المعارضة يمكنها تغيير المعادلة.

5- مواصلة عمليات الإسناد البحري استكمالا للمهمات الإنسانية التي قام بها أسطول الحرية وسفينة كاترين لكسر الحصار المفروض على غزة. ويبدو أن هناك تحركا عمليا في هذا الاتجاه واستعدادات لإرسال سفن أخرى سيرافقها برلمانيون وناشطون غربيون يمكنهم إحراج الكيان الصهيوني والوقوف على حقيقة المعاناة الإنسانية التي يتعرض لها سكان غزة.

6- مواصلة جهود عزل الكيان الصهيوني الذي أدت -حسب تقارير موثوقة- إلى عزلة حقيقية لهذا الكيان، وكمثال على ذلك قرار مجلس مدينة برشلونة قطع العلاقات المؤسسية مع إسرائيل وإنهاء اتفاق التوأمة مع تل لبيب، ومن قبيل ذلك أيضا مطالبة بعض النواب في البرلمان الإيطالي الحكومة الإيطالية بقطع كل أشكال الدعم والتعاون مع إسرائيل على خلفية الإبادة الجماعية التي يرتكبها في غزة.

الشروق الجزائرية
التعليقات (0)

خبر عاجل