تحول لافت
في الموقف الأوروبي
في تحول لافت
في السياسة الدفاعية الأوروبية، قررت هولندا أن تكون أول دولة في حلف شمال الأطلسي
(الناتو) تشتري أنظمة دفاع جوي أمريكية؛ ليس لحاجتها المباشرة، بل لتسليمها إلى أوكرانيا.
هذا التحرك يفتح بابا جديدا لفهم طبيعة الدعم الأوروبي لكييف، حيث ننتقل من الدعم السياسي
والعسكري المحدود إلى دعم نوعي واستباقي يعكس تصاعد القلق الأوروبي من اتساع رقعة الحرب
وتزايد الهجمات الجوية الروسية. ما تقوم به هولندا هو نوع من "الردع الاستباقي
غير المباشر" يهدف لحماية العمق الأوكراني، وردع
روسيا دون الانخراط المباشر في
الحرب.
قرار يتجاوز
الرمزية
القرار الهولندي
ليس مجرد خطوة رمزية، بل يحمل أبعادا عملية واضحة. على المستوى العسكري، تسليم أنظمة
دفاع جوي متطورة يعني توفير حماية للمدن والبنى التحتية الأوكرانية من الصواريخ والطائرات
المسيّرة، أما على المستوى الرمزي، فهو بمثابة رسالة لبقية الدول الأوروبية بأن الاكتفاء
بالإدانات لم يعد كافيا، وأن التحرك العسكري بات ضرورة ملحة. هذا المسار قد يشجع دولا
مثل ألمانيا أو بولندا على اتخاذ قرارات مماثلة، ما يوسّع نطاق الدعم العسكري لأوكرانيا.
على المستوى العسكري، تسليم أنظمة دفاع جوي متطورة يعني توفير حماية للمدن والبنى التحتية الأوكرانية من الصواريخ والطائرات المسيّرة، أما على المستوى الرمزي، فهو بمثابة رسالة لبقية الدول الأوروبية بأن الاكتفاء بالإدانات لم يعد كافيا، وأن التحرك العسكري بات ضرورة ملحة
رد روسي متوقع
وتدويل أعمق للصراع
من المؤكد
أن موسكو لن تمرر هذا القرار مرور الكرام. روسيا تعتبر
تسليح أوكرانيا المتقدم خطا
أحمر، وقد تلجأ إلى التصعيد سواء عبر تكثيف الضربات الجوية أو استهداف طرق إمداد الأسلحة.
بهذا الشكل، تتآكل الحدود بين الدعم غير المباشر والمواجهة المفتوحة، ويتعمق تدويل
الصراع أكثر فأكثر.
من اجتماع
لاهاي إلى ساحة المعركة
ولا يمكن فصل
هذا القرار الهولندي عن الأجواء التي سادت خلال اجتماع الناتو في لاهاي قبل أسابيع.
فالاجتماع ركز بشكل واضح على تعزيز الدفاعات الجوية في أوكرانيا، خاصة في ظل مخاوف
من امتداد الهجمات الروسية إلى العمق الأوروبي. آنذاك، كانت هولندا ودول البلطيق من
أبرز الداعين إلى تسريع وتيرة الردع الجوي، وما نشهده اليوم هو التطبيق العملي الأول
لمقررات ذلك الاجتماع، وفي مقدمة الركب تأتي هولندا.
تقاطع الأمن
والطاقة والهجرة والمناخ
لفهم السياق
الكامل للقرار، لا بد من العودة إلى محددات السياسة الأوروبية الأربعة: الأمن، والطاقة،
والهجرة، والمناخ. الدعم العسكري لأوكرانيا يُعد تحركا أمنيا بامتياز، لكنه يرتبط عضويا
ببقية الملفات، فأي تصعيد عسكري يهدد إمدادات الطاقة، ويؤدي إلى موجات هجرة جديدة نحو
أوروبا، كما أن الحرب تُخلف آثارا بيئية تعرقل مسار التحول الأخضر. من هنا، فإن القرار
الهولندي يتجاوز كونه استجابة أمنية إلى كونه تموضعا استراتيجيا متعدد الأبعاد.
الاستقلال
الأوروبي داخل القاطرة الأمريكية
رغم الخطاب
الأوروبي المتكرر حول "الاستقلال الاستراتيجي"، إلا أن معظم التحركات العسكرية
ما تزال تنسجم إلى حد كبير مع الرؤية الأمريكية، وقرار هولندا لا يمكن قراءته خارج
هذا الإطار. هناك دينامية قيادة أمريكية داخل الناتو، وهولندا تتحرك ضمنها، بل تقدم
نفسها كدولة مبادرة لا تابعة فقط. الرسالة التي ترسلها أوروبا من خلال هذه الخطوة:
إن لم نكن قادرين على القيادة، فلا يجوز أن نتخلف عن ركب واشنطن.
عجز دبلوماسي
يُغطى بالأدوات العسكرية
ما يحدث اليوم
في أوروبا يعكس مفارقة عميقة: عجز سياسي يُقابَل بتحرك عسكري. فعلى مدى عامين من الحرب،
لم تستطع أوروبا أن تُنتج حلا دبلوماسيا فعالا، فتوجهت نحو الأدوات العسكرية لتعويض
هذا الغياب. هذه ليست علامة على القوة بقدر ما هي اعتراف ضمني بالضعف السياسي. من اللافت
أن هولندا، الدولة الصغيرة نسبيا، هي من تبادر، في وقت تبدو فيه دول مثل فرنسا وألمانيا
أكثر تحفظا، وربما يمكن قراءة هذا التحرك كنوع من "التفويض الوظيفي" من واشنطن
لبعض الحلفاء للقيام بأدوار أمنية محددة.
الذاكرة المؤلمة
للعلاقة مع روسيا
أما العلاقة
بين هولندا وروسيا، فهي محمّلة بتاريخ من التوترات المزمنة، تعود أبرز محطاتها إلى
العام 2014 عندما تم إسقاط طائرة الركاب الماليزية MH17 فوق شرق أوكرانيا، ما أسفر عن مقتل 193 هولنديا. التحقيقات الهولندية حمّلت
الانفصاليين الموالين لروسيا المسؤولية، وتدهورت العلاقات منذ ذلك الحين، مع قضايا
تجسس متكررة وطرد دبلوماسيين. قرار اليوم ليس فقط نابعا من التزامات الحلف، بل أيضا
من ذاكرة وطنية مؤلمة تدفع باتجاه موقف متشدد.
قرار استراتيجي
في لحظة سياسية هشة
هذا التحرك الأوروبي النوعي تجاه أوكرانيا، والذي يُبنى على اعتبارات "أخلاقية" وسيادية، لا يُقابله حراك مشابه عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. ففي الوقت الذي تُصعّد فيه إسرائيل من انتهاكاتها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة حد ارتكاب إبادة جماعية موصوفة، كبوابة لعملية تطهير عرقي ومدخل للتهجير، تتردد كثير من العواصم الأوروبية في اتخاذ مواقف ردعية أو فرض عقوبات
اللافت أن
هذا القرار صدر عن حكومة هولندية انتقالية، بقيادة ديك شوف، في ظل مشهد سياسي داخلي
مرتبك وتصاعد لليمين المتطرف. فأن تتخذ حكومة مؤقتة قرارا استراتيجيا بهذا الحجم،
فهذا يطرح تساؤلات حول مدى وجود إجماع نخبوي، أو ربما يعكس محاولة لصياغة دور أمني
خارجي يغطي على هشاشة الوضع الداخلي.
مارك روته
والرمزية السياسية للقرار
ولا يمكن إغفال
رمزية توقيت القرار مع تولي رئيس الوزراء الهولندي السابق مارك روته أمانة حلف الناتو،
هذا التزامن يعكس رغبة هولندية في ترسيخ موقعها داخل الحلف، وربما يكون بمثابة "تحية
سياسية" مبكرة لروته في منصبه الجديد، وأن تكون أول دولة تتخذ هذه الخطوة في عهده
ليس تفصيلا عابرا، بل ربما إشارة إلى بداية مرحلة جديدة من التموضع الهولندي داخل الناتو.
الانتقائية
الأخلاقية وازدواجية المعايير
من اللافت
أن هذا التحرك الأوروبي النوعي تجاه أوكرانيا، والذي يُبنى على اعتبارات "أخلاقية"
وسيادية، لا يُقابله حراك مشابه عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. ففي الوقت الذي
تُصعّد فيه إسرائيل من انتهاكاتها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة حد ارتكاب إبادة
جماعية موصوفة، كبوابة لعملية تطهير عرقي ومدخل للتهجير، تتردد كثير من العواصم الأوروبية
في اتخاذ مواقف ردعية أو فرض عقوبات، ما يطرح تساؤلات حول المعايير المزدوجة في فهم
"التهديد" و"العدوان" داخل السياسات الغربية.
خاتمة: تموضع
جديد ورسائل متعددة
في المحصلة،
القرار الهولندي يكشف تحوّلا في المزاج الأمني الأوروبي. دعم أوكرانيا بات يُفهم كجزء
من معادلة الاستقرار الداخلي، لا فقط كمسؤولية تضامنية. هولندا، عبر هذا القرار، لا
تصطف مع الناتو فقط، بل تصفي حسابا قديما مع روسيا، في خطوة تحمل أبعادا أخلاقية وأمنية
في آن واحد.