قضايا وآراء

عن الحلقة المفقودة في معالجة المشكلة السورية

أشرف سهلي
"قبل أن تطالب بحقوقك يفترض أن تقدم ما عليك، وأن تحترم دماء شهداء وقود الثورة الأبرز"- الأناضول
"قبل أن تطالب بحقوقك يفترض أن تقدم ما عليك، وأن تحترم دماء شهداء وقود الثورة الأبرز"- الأناضول
كانت الفئات غير المنخرطة من العلويين (والعلويون هنا مثال) في الثورة أو جرائم النظام غير مكترثة أو معنية من تلقاء نفسها بتحرك أخلاقي ضد المجرم المباشر الذي كان يقتل كل السوريين باسم طائفتهم.. هذا الانكفاء عن مواجهة المجرم الذي أتى من داخل البيت، بيتهم، هو نتيجة عدم اكتراث كاف بمآلات ما يفعله ضدهم وضد غيرهم، وانعكاسات ذلك والعذابات الناجمة عنه، والضرر اللاحق بأبناء بلدهم. هو أحد أشكال الأنانية والاستفادة غير المقصودة بل بحكم العادة، وأول من دفع ثمن عدم ردة الفعل عليه للأسف هم هؤلاء الذين تخلفوا عن النفور الجماعي الأخلاق ضد القاتل في الوقت المناسب رفضا لأن يستثمر بهم، ومن بعدها دفعت كل سوريا ثمن "مجازر الساحل" أخلاقيا، أليس كذلك؟!..

 المسؤولية التي تقع على عاتق جماعة المجرم وعائلته وعشيرته للتخلص منه ولإثبات -على الأقل- الشعور بألم وعذابات من كان يقتلهم المجرم، وهم مصادفة هنا من نفس البيت، البيت السوري الكبير، هي مسؤولية عملية وليست نظرية، لا تنازل عنها أبدا من ذوي الضحايا ولا يمكن أن يتم تجاهلها حتى لو تم التخلص من القاتل (دون تنصل مجموعته منه). فحتى إن سقط النظام وبدأت عملية إنشاء نظام جديد ودولة جديدة، فهذه خطوة لا مفر منها، وهي غسل العار من القاتل، وإن لم تتم خلال إجرامه فيجب أن يقدمها أهله بعد ذلك فهو دين أخلاقي عليهم..

شعور المظلومية والإبادة التي تعرض لها السنّة السوريون الذين يشكلون الأكثرية لا يحتاج فقط إلى إصلاح داخلي منهم، حتى لا يتحولوا ليتصرفوا بعقلية الطائفة الخائفة التي ترغب بالانتقام والتوحش، والذي سيكبر ويتضح أكثر بطبيعة الحال عندما لا تقوم الدولة والمحاسبة وعملية إصلاح المؤسسات ومسار العدالة الانتقالية وإطلاق الحريا

دون هذين الأمرين معا (إسقاط القاتل وتبرؤ جماعته منه أخلاقيا) لا يمكن أبدا أن تقام أركان أي دولة مواطنة، لذلك فهذه الأمور جزء من الإصلاح والعدالة الانتقالية، حتى وإن بدت أنها خطوات أخلاقية أكثر من كونها تتعلق بجوهر قانوني تقوده دولة ومؤسسات، وهي خطوات مهمة لأننا في بلد غير مؤسس بعد بمنطق الدولة والمواطنة بل بمنطق الجماعة والعشيرة والطائفة، وبالتالي فنحتاج لخطوات أخلاقية من هذا النوع من الجماعات للدفع نحو خطوات مقوننة لاحقا باسم الدولة..

كان يجب على السواد الأعظم من الإخوة الدروز بالمثل أن يفهموا درس الساحل، وليس فقط أن يُطلب من الدولة والسلطة الانتقالية والأكثرية أن تفهم هذا الدرس وألا تكرره، لأن لدى الدروز مجرما واضحا اسمه حكمت الهجري. وعلى الكرد السوريين أن يفهموا هذا الدرس وأن يكون لهم دور في تطهير سوريا من قسد، والتبرؤ المباشر من جرائم مظلوم عبدي لأنه منهم.. هذه خطوات تبدو غير منطقية أو واقعية أو قانونية لكنها أخلاقية وعادلة جدا..

هناك واجبات أخلاقية يجب على من كان النظام البائد يزعم أنه يحميهم (الأقليات) أو يتغذى عليهم، رغم أنه كان يظلمهم أو يستغلهم ويقود بهم وقود مشاريع تقسيم سوريا وحرقها في حال سقوطه أن يقدموها بكل كرم وسخاء وحسن نية قبل أن يطالبوا بحقوقهم، حتى إن كانوا من السواد العام غير المتورط مع تلك المجموعات وغير المنخرط بالثورة.. هذا الكلام ليس لوما أو تجريما لهم، بل هو واجب وطني وأخلاقي يترتب عليهم كأبناء لما يسمى سوريا، قبل أن يطالبوا بحقوقهم، كدليل على أنهم أبناء وطن وليسوا أنانيين وفئويين أو يعتبرون أنفسهم أعلى قيمة أو دمهم أهم من دماء الأكثرية التي أُبيدت وهُجرت بالنيابة عن كثير منهم..

فشعور المظلومية والإبادة التي تعرض لها السنّة السوريون الذين يشكلون الأكثرية لا يحتاج فقط إلى إصلاح داخلي منهم، حتى لا يتحولوا ليتصرفوا بعقلية الطائفة الخائفة التي ترغب بالانتقام والتوحش، والذي سيكبر ويتضح أكثر بطبيعة الحال عندما لا تقوم الدولة والمحاسبة وعملية إصلاح المؤسسات ومسار العدالة الانتقالية وإطلاق الحريات، ولا سيما أن قوى التمرد الثوري هي التي تسلمت مقاليد السلطة بعد سقوط نظام الأسد، وهو ما يمكن أن يرسم ملامح بلد طائفي تحطمه النزعات وتهيمن عليه هوية "عربية سنية" كتعريف غير دقيق لسوريا.

بل إن هذا الشعور يحتاج إلى مشاركة وإصلاح من الأقليات بنبذ كل مجرميها علانية، والتخلص من خطاب التعالي في الطلبات التي يفترض أن تكون بحالة اتزان مع الواجبات الأخلاقية المترتبة عليهم؛ لأن المحرقة التي تعرضت لها الأكثرية كانت لأجل الجميع، ويفترض بالبقية أن يكونوا أكثر مرونة واحتراما لتلك التضحيات الجسيمة وأن يثبتوا ذلك عمليا بالتخلص من كل مجرم طائفي وانفصالي في صفوفهم أو محسوب عليهم زورا أو نبذه والتبرؤ منه، وذلك قبل كل فكرة بناء الدولة المزعومة (تبعنا).. صوت المطالب كان لديهم أعلى من صوت الواجب بكثير.. صوت المخاوف كان أعلى من صوت المشاركة.. لوم الآخر يبدأ عندما تصدق مع نفسك وتقوم بواجباتك كاملة وليس استباقا لكل ذلك..

المبادرة الأخلاقية التي تعد تصالحا مع الذات ومبادرة مع الآخر السوري وعملية التنازل الفئوي مقابل الانتصار الجماعي أخلاقيا؛ لا تزال قابلة للتنفيذ حاليا وهي الحلقة المفقودة للبدء بمعالجة المشكلة السورية الحالية، بل هي المفتاح الأخلاقي والضمانة الأولى التي تحول دون تحول مفاهيم "الطائفة" و"الأقلية" و"العشيرة" و"الأكثرية" إلى مجموعة مصطلحات تمثل أزمة هوية سورية قادرة على قتل نفسها والاحتراب إلى ما لا نهاية

قبل أن تطالب بحقوقك كان يفترض أن تقدم ما عليك، وأن تحترم دماء شهداء وقود الثورة الأبرز، أي السنة السوريين، فهم عامودك الفقري وحاضنتك التي ستحميك كابن طائفة صغيرة أو أقلية دينية أو عرقية.. أن تقدم ما عليك وإن كنت غير مذنب، لأن الذين تحالفوا لقتل الثورة تركز إجرامهم ضد الأكثرية وأنت تدرك ذلك، ولأنهم شكلوا نظام تحالف أقليات استخدم باسمك وزعم حمايتك وفيهم أبناء عمومتك، فأنت مطالب أخلاقيا بتحطيم هذا الصنم الفكري الخبيث الذي زرعه نظام الأسد، وذلك لتحل العدالة الأخلاقية التي تمهد الطريق لجسور الثقة والمطالبة بالحقوق وبقية المسارات..

ولكن للأسف لم ترغب أي من الأقليات بوجهائها وقدواتها وغالبية شخصياتها العامة ونشطائها أن تنخرط بذلك، وأن تضع نفسها في هذا المكان الأخلاقي الذي يجعلها تتبنى الإيثار بدل الأنانية، والعطاء وليس فقط المطالبة بالأخذ والتلقي، وأن تلعب رغم صغر حجمها دور طوق النجاة الجميل لكل السوريين وحبل إنقاذ الأكثرية قبل الأقلية وبالتالي حبل إنقاذ سوريا كلها..

وهذا لا يخفي واجبات الأكثرية والسلطة والدولة.. وهي حقيقة اختفت بين الضجيج ويتناساها كثيرون ويغفلها كثيرون.. نفقد العلاجات ونبدأ برحلة الوقاية المفقودة حتى اللحظة.. وينكر تلك الحقيقة كثيرون لا يريدون الاعتراف بذلك أمام أنفسهم على الأقل..

تلك المبادرة الأخلاقية التي تعد تصالحا مع الذات ومبادرة مع الآخر السوري وعملية التنازل الفئوي مقابل الانتصار الجماعي أخلاقيا؛ لا تزال قابلة للتنفيذ حاليا وهي الحلقة المفقودة للبدء بمعالجة المشكلة السورية الحالية، بل هي المفتاح الأخلاقي والضمانة الأولى التي تحول دون تحول مفاهيم "الطائفة" و"الأقلية" و"العشيرة" و"الأكثرية" إلى مجموعة مصطلحات تمثل أزمة هوية سورية قادرة على قتل نفسها والاحتراب إلى ما لا نهاية، بل إن تلك المبادرات الأخلاقية من المكونات السورية قد تكون الدافع الوحيد نحو فك المعضلة كلها والبدء بعملية البناء الحقيقية الشاملة، وجعل الفرص أكبر من التحديات.
التعليقات (0)