سياسة عربية

تحقيق يكشف أسرار جديدة عن سجن صيدنايا السوري

عمليات الشنق أصبحت أمرًا روتينيًّا داخل أكثر مصانع الموت رعبًا في عهد بشار الأسد- الأناضول
عمليات الشنق أصبحت أمرًا روتينيًّا داخل أكثر مصانع الموت رعبًا في عهد بشار الأسد- الأناضول
كشف تحقيق استقصائي جديد لصحيفة "وول ستريت جورنال" تفاصيل صادمة عن عمليات الإعدام الجماعية والتعذيب الممنهج الذي مارسه نظام بشار الأسد داخل سجن صيدنايا، الذي يُعرف بكونه أحد أكثر مرافق الاحتجاز رعبًا في العالم. 

وجاء في التحقيق أن "عمليات الشنق أصبحت أمرًا روتينيًّا داخل أكثر مصانع الموت رعبًا في عهد بشار الأسد، فمرة كل شهر، عند حلول منتصف الليل تقريبًا، كان حرّاس سجن صيدنايا ينادون أسماء المحكوم عليهم بالإعدام، وهم بالعشرات دفعة واحدة، ثم يلفّون الحبال حول أعناقهم، ويسحبون الطاولات من تحت أقدامهم، فيصدر صوت احتكاك حاد يتردد صداه في أرجاء المبنى".

وذكر التحقيق "أما من في الزنازين المجاورة، فكانوا يسمعون صوت اختناق الضحايا وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، إلا أنه في منتصف آذار/ مارس من عام 2023، تسارع الإيقاع بشكل دراماتيكي، بحسب شهادة ستة شهود".

يقول عبد المنعم القايد، وهو مقاتل سابق في صفوف المعارضة يبلغ من العمر 37 عامًا، كان قد سلّم نفسه للسلطات ظنًّا منه أنه مشمول بعفو حكومي: “جمعوا 600 شخص وقتلوهم في ثلاثة أيام، حوالي 200 شخص كل ليلة”.

ووقعت مجزرة 2023 الجماعية، التي لم يُكشف عنها سابقًا، في الوقت الذي كان فيه رئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد، على وشك الخروج من عزلته الدولية، فبعد أكثر من عقد من القصف والتعذيب والهجمات الكيماوية لسحق التمرّد الداخلي، كان الأسد غارقًا في مفاوضات مع أطراف إقليمية تمهيدًا لإعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وقد رأت بعض الدول العربية ومسؤولون غربيون أن الثورة قد انتهت، وبدأوا بالتقرّب من الأسد والسعي إلى تجميد النزاع.

لكن الانهيار المفاجئ لنظام الأسد أواخر العام الماضي كشف مدى فداحة الخطأ في تقديرات المجتمع الدولي، ففي واحدة من أولى خطواتهم عند دخولهم دمشق فجر يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر، اقتحم الثوار السجن، وأطلقوا النار على الأقفال، وحرروا من تبقى من السجناء، كاشفين النقاب عن أحد أسوأ نماذج القتل المنهجي الذي ترعاه الدولة منذ الحرب العالمية الثانية.

داخل السجن، الذي يتكوّن من مبنيَين من الخرسانة تحيط بهما الأسلاك الشائكة على أحد سفوح الجبال قرب دمشق، نفّذ نظام بشار الأسد عمليات تعذيب وقتل على نطاق هائل يُرجّح أنها أودت بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص على مدى أكثر من عقد. 

اظهار أخبار متعلقة


وجرى عمليات القتل بأسلوب بيروقراطي نادر في التاريخ الحديث، إذ احتفظ جهاز الأمن التابع للأسد بسجلات دقيقة عن نقل المعتقلين إلى سجن صيدنايا ومرافق أخرى، فضلًا عن وثائق المحاكم وشهادات وفاة من تم إعدامهم.

ويقول ستيفن راب، السفير الأميركي السابق لشؤون جرائم الحرب: "إنها أسوأ فظاعة في القرن الحادي والعشرين من حيث عدد القتلى وطريقة تورّط الحكومة بشكل مباشر"، وأضاف: "أرى صلة مباشرة بينها وبين ما فعله النازيون وروسيا السوفييتية من حيث التنظيم المنهجي للإرهاب الذي تمارسه الدولة". 

وقد ربط عدد من السجناء السابقين بين مجزرة آذار/ مارس وتلك "الإصلاحات" التي أعلنها الأسد لاحقًا في العام نفسه، ضمن جهوده لكسب القبول الدولي، ففي وقت لاحق من عام 2023، ألغى الأسد المحكمة الميدانية العسكرية التي كانت ترسل العديد من المعتقلين إلى صيدنايا، وخفّف بعض أحكام الإعدام، ويعتقد معتقلون سابقون وخبراء في جرائم الحرب أن النظام ربما سعى إلى تنفيذ موجة قتل جماعية أخيرة قبل أن تؤدي تلك الإجراءات إلى إبطاء آلة الموت.

وأكد التحقيق أن تمكُّن الناجين اليوم من التحدث علنًا، ونشر أسمائهم ووجوههم، يُظهر كيف غيّر سقوط النظام بنية المجتمع السوري، فقد شملت قائمة من زُجّوا في صيدنايا خلال الحرب منشقين عن الجيش، ومقاتلين معارضين، وناشطين سلميين، كما شمل المعتقلون الذين أجريت معهم مقابلات ضمن هذا التحقيق عالمًا نوويًّا ومهندسًا اعتُقل لمجرد أنه كان صديقًا على فيسبوك لشخص عبّر عن انتقاده للنظام.

وتُظهر شهاداتهم حجم التعذيب والقتل الذي وقع داخل السجن، بعد سنوات من التقارير التي وثّقت هذه الانتهاكات، والتي صدرت عن محققين تابعين للأمم المتحدة، ومنظمات حقوقية مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، ومؤسسات مجتمع مدني كمركز العدالة والمساءلة السوري وقوة الطوارئ السورية ورابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، بمعنى آخر، كان العالم يعرف عن صيدنايا، لكنه فشل في إيقاف الجرائم التي ارتُكبت بداخله.

يقول عماد العقرة، وهو أستاذ يعمل حاليًا على برامج إعادة تأهيل السجناء والعدالة الانتقالية في سوريا، وقد سُجن في عام 2011 بعد ظهوره في مقابلة تلفزيونية ينتقد فيها النظام، وقضى نحو عام في صيدنايا: "هذا السجن وصمة عار على جبين العالم كله، وليس سوريا فقط". 

ويستند هذا التقرير إلى مقابلات أُجريت مع 21 معتقلًا سابقًا في صيدنايا، ومسؤولَين سابقَين في النظام شاركا في عمليات القتل، ونحو عشرة خبراء سوريين ودوليين في جرائم الحرب، بالإضافة إلى مراجعة مئات الصفحات من الوثائق الرسمية التابعة لنظام الأسد التي عُثر عليها في السجن ومرافق أمنية سورية أخرى. 

كما زار صحفيو "وول ستريت جورنال" السجن ثلاث مرات في محاولة لتوثيق أدلة على تلك الفظائع.
وكان سجن صيدنايا، المعروف في الوثائق الرسمية للنظام باسم “السجن العسكري الأول”، الأكبر بين عشرات مراكز الإعدام التي أنشأها نظام بشار الأسد بهدف زرع الرعب في نفوس السوريين، وكسر انتفاضة عام 2011 والتمرد المسلح ضد حكمه.

أما الاسم المتداول شعبيًّا للسجن—“صيدنايا”، نسبة إلى البلدة الجبلية الصغيرة التي يقع فيها—فقد أصبح مرادفًا خلال السنوات الأربع عشرة الماضية لعمليات الخطف والقتل التي نفذها النظام بحق مواطنيه، حيث صارت عبارة “ضاع في صيدنايا” تعني أن الشخص قد اعتُقل ولم يُرَ بعد ذلك أبدًا.

وبالإضافة إلى آلاف من عمليات الإعدام المنظمة، يقول معتقلون سابقون وخبراء في جرائم الحرب إن عددًا مماثلًا ربما قُتل في صيدنايا تحت التعذيب وظروف الاحتجاز القاسية، والتي شملت الضرب بالعصي والأنابيب المعدنية، إلى جانب الجوع والعطش والأمراض.

وكان السجناء يُحتجزون في زنازين ضيقة معدنية الجدران، تعج بالقمل، ولا تحتوي إلا على فتحة صغيرة للتهوية، وكان يُمنع عليهم النظر في أعين الحراس، إذ قد يعرّضهم ذلك لضرب مبرح ينزفون إثره حتى الموت على أرض الزنزانة.

يقول علي أحمد الزوارة، وهو مزارع من ريف دمشق اعتُقل عام 2020 عن عمر 25 عامًا بسبب تهرّبه من الخدمة العسكرية: “كان صيدنايا كابوسًا. كان مجزرة مستمرة. معظم من دخلوا لم يخرجوا أحياء”.

أما المئات الذين خرجوا أحرارًا في ديسمبر/كانون الأول، فكانوا يشكلون أقلية ضئيلة مقارنة بعشرات الآلاف من السوريين الذين فُقدوا خلال الحرب، ووفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي جهة رقابية موثوقة، فقد اختفى قسريًّا نحو 160,123 سوريًّا على يد نظام الأسد طوال سنوات النزاع.
وما زالت بعض العائلات تأمل في أن يكون أحبّاؤها على قيد الحياة، بينما بدأت عائلات أخرى تعيش نوعًا غريبًا من الحداد، تتقبل فيه فكرة موت أقاربها، دون أن تعرف متى أو كيف ماتوا، فضلًا عن عدم قدرتها على دفنهم أو وداعهم الأخير.

تقول دينا قش، زوجة عمّار درعا، وهو موزّع جملة اختفى عام 2013 بعد اعتقاله عن عمر 46 عامًا: “رغم أننا نعلم أنه انتهى به المطاف في صيدنايا، فإننا لا نعرف ما الذي جرى له. لم نستلم جثمانه قط”، وأكدت العائلة في ديسمبر أنه أُرسل إلى صيدنايا، بعد العثور على وثائق تثبت ذلك في أحد مقارّ الاستخبارات عقب سقوط النظام "علينا أن نقول: يرحمه الله، لكننا دائمًا نُتبعها بعبارة: سواء كان حيًّا أو ميتًا". 

وجرى بناء السجن العسكري الأول في صيدنايا خلال ثمانينيات القرن الماضي، في عهد حافظ الأسد، والد بشار، وكان رمزًا للدولة الأمنية الواسعة التي أنشأها، وعندما تسلّم بشار السلطة في عام 2000، ورث السجن والمنظومة الأمنية بكاملها.

في ربيع عام 2011، اجتاحت الثورات دول الشرق الأوسط، وبعد أن أطاحت الاحتجاجات برئيسَي تونس ومصر في كانون الأول/ يناير، خرجت جموع ضخمة من السوريين إلى الشوارع مطالبة بمزيد من الحريات السياسية.

وعندما اندلعت الانتفاضة في سوريا، كان محمد عبد الرحمن إبراهيم، وهو شاب يبلغ من العمر 26 عامًا، يرتدي نظارات سميكة وصوته خافت، يقدّم دروسًا خصوصية مستخدمًا شهادته في الرياضيات المتقدمة، وكان لا يزال يعيش مع والديه في منزل إسمنتي على أطراف دمشق الجنوبية، في حيٍّ يقطنه ميكانيكيون وسائقو توصيل.

في صيف ذلك العام، جُنِّد في جيش الأسد، وأُرسل لحراسة قاعدة جوية في شمال سوريا كانت تستخدمها طائرات النظام لقصف مواقع المعارضة قرب حلب، لكنه لم يستطع تحمّل مشاهد العنف التي يرتكبها النظام، فانشقّ في يناير 2013، وانضم إلى كتيبة من المعارضة قرب دمشق، لكنه ما لبث أن أنهكه القتال، فانسحب بعد بضعة أشهر.

هرب إلى منطقة في جنوب سوريا كانت تسيطر عليها المعارضة، وقضى هناك أربع سنوات يدرّس الرياضيات ويعمل في محلٍّ صغير، يعيش ما يشبه المنفى الداخلي، غير قادر على العودة إلى دمشق خوفًا من الاعتقال.

وفي عام 2018، أعلنت الحكومة عن “عفو” عام، قيل إن روسيا تكفلت بضمانه، لبعض مقاتلي الجنوب السابقين وقرر إبراهيم تسليم نفسه بعد أن سئم العيش في خوف دائم من الحواجز الأمنية. 
رتّب الأمر ليدخل إلى مقر الشرطة العسكرية في دمشق، وعندما وصل، سلّم هويته ونُسخة من أوراق العفو إلى ضابط هناك.

قال له الضابط وهو يرمي الأوراق على الأرض: "طز فيك، مين عطاك هالورقة؟"، وبعد أربعة أيام من التحقيق، عُصبت عيناه واقتيد إلى مقرّ إدارة المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري، وهناك قال له الضباط إن عليه توقيع اعتراف بقتل جنود من الجيش، وحين رفض في البداية، انهالوا عليه ضربًا بالهراوات، ثم علّقوه من معصميه إلى السقف ويداه موثوقتان خلف ظهره، وبعد أن أنزلوه إلى الأرض، هددوه بأمه وأخته، وقال له أحدهم: "نقدر نجيبهم لهون ونغتصبهم قدامك". 

وبعد أقل من ساعة من التعذيب، خضع إبراهيم، ووقّع لاحقًا على “اعتراف” وطبع عليه بصمته، دون أن يُسمح له حتى بقراءته.

قال إبراهيم، الذي يبلغ الآن الأربعين: "ربما وقّعت على حكم إعدامي.. لا أعرف". 

اظهار أخبار متعلقة


قال له أحد ضباط الاستخبارات: "ما رح تشوف الشمس مرة تانية"، قبل أن يُدفع إلى مؤخرة شاحنة.
وفي صباح أحد أيام نيسان/ أبريل من عام 2019، اقتيد مع نحو أربعين معتقلاً آخرين إلى سجن صيدنايا على قمة جبل.

هناك، قام الحراس بتجريده من ملابسه ودفعوا جسده داخل إطار مطاطي لتسهيل ضرب أطرافه، ثم وُضع مع سبعة رجال آخرين في زنزانة خرسانية بالكاد تتّسع لهم حتى لو وقفوا متلاصقين جنبًا إلى جنب، وقد كانوا مكدّسين، مصابين بكدمات، ينزفون، عراة ويرتجفون من البرد. 

لم يجدوا وسيلة للتدفئة وهم في ظلام دامس، سوى احتضان بعضهم البعض، وكان المرحاض الأرضي في الزنزانة يفيض بالمياه الآسنة التي غمرت أقدامهم وكواحلهم.

قال أحد الرجال وهو ينتحب: "رح أموت قبل الصبح"، لكن جميع من في زنزانة إبراهيم ظلوا أحياء حتى صباح اليوم التالي، حين فتح الحراس الباب، وأعطوهم بزّات رمادية، ثم اقتادوهم إلى الزنازين الاعتيادية في الطابق العلوي من السجن.

ما تعرّض له إبراهيم عند وصوله إلى صيدنايا لم يكن استثناء، بل كان إجراءً معتادًا يعرفه بعض المعتقلين السابقين باسم “حفلة الترحيب”، وقد صُمّم هذا الطقس خصيصًا لكسرهم نفسيًّا، وإعدادهم لحياة داخل منشأة تُجردهم من إنسانيتهم، بحسب ما قالوا.

قال عدد من المعتقلين السابقين إن بعض السجناء لقوا حتفهم خلال هذا الضرب الأولي، والذي غالبًا ما تضمن تلقي مئة جلدة على الساقين باستخدام خرطوم بلاستيكي أخضر، وقد اضطر أحدهم، وهو مقاتل سابق في المعارضة يُدعى بشار محمد جاموس (35 عامًا)، إلى بتر قدمه اليسرى نتيجة الضرب الذي تعرّض له فور وصوله إلى السجن.

وكان هذا الضرب الأولي بمثابة مقدّمة لحياة داخل السجن تُنتزع فيها أبسط مظاهر الكرامة الإنسانية، فقد مُنع السجناء من التحدث بصوت أعلى من الهمس، وحُرموا من الأحذية، والمطالعة، والورق، والأقلام.

وكانت رياح الجبال تعصف بالسجن معظم أيام السنة، بينما كان الرجال يرتجفون في بزاتهم الورقية الرقيقة داخل زنازين بلا تدفئة.

وقال السجناء إنهم أُجبروا على شرب بولهم، وتعرّضوا لاعتداءات جنسية، وضُربوا باستمرار من قبل الحراس باستخدام العصيّ المعدنية والأنابيب البلاستيكية الخضراء، وروى أحدهم أنه عندما كان يُسمح لهم بالاستحمام، كانت دماء الضرب تختلط بالماء والصابون المتجمّع على الأرض.

قال إبراهيم: "كل مرة كانوا يفتحوا الباب، يضربوك". 

وكانوا كثيرًا ما يُحرمون من الطعام والماء، فكان يُعطى زنزانة كاملة مليئة بالرجال كوبًا واحدًا من الأرز كوجبة ليوم كامل، وقد أدّى الجوع إلى هزال أجسادهم، وفي حادثة رواها المعتقل محمود عمر وردة (34 عامًا)، قطع الحراس المياه عن الزنزانة لمدة 17 يومًا متتالية، فاضطر سجين يُدعى بسام رحمن إلى الشرب من المرحاض، ما أدى إلى وفاته بعد أيام بسبب المرض.

وقال وردة، الذي يعيش حاليًا في مدينة عفرين شمال سوريا: "بدأنا 25 شخصًا، وفي النهاية لم يتبقَّ سوى ثمانية"، وأضاف: "كل من مات، مات أمام أعيننا في الزنزانة"، وغالبيتهم ماتوا بسبب الضرب.

في صيف عام 2011، بينما كان بشار الأسد يتحرّك لقمع الانتفاضة ضد حكمه، كان محمد عفيف نايفه، موظفًا في بلدية دمشق، جالسًا في مكتبه حين دخل عليه عدد من عناصر الأمن، وطلبوا منه أن يُشكّل فريقًا من العمال ويصطحبهم إلى مقبرة في الريف جنوب دمشق، وعند وصوله إلى الموقع المحدد، وهي مقبرة في بلدة نجها، أحضر رجال الأمن شاحنة تبريد بداخلها عشر جثث، وأمروا العمال بدفنها. ارتجف جسد نايفه، وقال: "ما سألت شي". 

اظهار أخبار متعلقة


على مدى الأسابيع التالية، استمر رجال الأمن في القدوم مرارًا، طالبين مزيدًا من العمال، ومزيدًا من الدفن، دائمًا في الليل، وفي إحدى هذه الليالي، سلّمه ضابط من المخابرات الجوية قائمة بالجثث، ولم تكن الجثث تحمل أسماء، بل مرقّمة فقط، وكانت الوثيقة تُشير إلى أماكن قدوم الجثث: غالبًا من أحد فروع الاستخبارات العسكرية، أو من مشفى عسكري.

قال نايفه: "عندها فهمت أنهم ماتوا تحت التعذيب". 

ومع مرور الأشهر، أخذ عدد الجثث يتزايد، فاضطر فريق نايفه إلى استخدام جرافة ومعدات أخرى لحفر قبور أكبر حجمًا. 

وواصلت شاحنات التبريد الوصول محمّلة بالجثث، بعضها يحمل كدمات واضحة من الضرب، وأخرى بعلامات حول العنق، وكثير منها مرفقة بأرقام، وفي بعض الأحيان كانت الجثث داخل أكياس مخصصة، وأحيانًا أخرى كانت مكشوفة، بحسب رواية نايفه، ومسؤول سابق ثانٍ شارك في عمليات الدفن، يُدعى يوسف عبيد، وكان يقود الجرافة في الموقع.

وتُظهر الوثائق الحكومية أن الجثث من صيدنايا ومنشآت أمنية أخرى كانت تتراكم داخل منظومة المستشفيات والمشارح العسكرية السرية للنظام. 

وتشير برقية من الاستخبارات العسكرية بتاريخ كانون الأول/ ديسمبر 2012، عثرت عليها “لجنة العدالة والمساءلة الدولية”، إلى شكوى من “روائح كريهة” تصدر من جثث متحلّلة داخل المباني التابعة لها.

ولم تعد وكالات الأمن تجد متسعًا في مقبرة نجها بحلول  العام التالي، فاستُدعي نايفه وفريقه إلى سهلٍ خالٍ على أطراف دمشق الشمالية، قرب بلدة قُطَيفة، وأُمروا بمواصلة الحفر لدفن عدد متزايد من الجثث.

وتُعد المقبرة الجماعية في قُطَيفة، وهي الأكبر من بين عدة مواقع استخدمها النظام للتخلّص من جثث ضحايا عمليات القتل الجماعي، أكبر شاهد على حجم المجازر. 

ووفق تحليل لصور الأقمار الصناعية أجراه المركز الألماني للفضاء لصالح محكمة جرائم حرب في ألمانيا، فقد اتسعت مساحة القبور هناك من 19 ألف متر مربع إلى 40 ألف متر مربع بين عامي 2014 و2019، وكانت القبور بطول يصل إلى 120 مترًا، وعرض يتراوح بين 3 و5 أمتار.

وتُظهر صور الأقمار الصناعية التي راجعتها صحيفة "وول ستريت جورنال" شاحنات تصل إلى الموقع، وخنادق تُحفَر خلال تلك الفترة.

وكانت تصل إلى قُطَيفة كل أسبوع شاحنتان إلى ثلاث شاحنات محمّلة بالجثث، وأحيانًا مئات الجثث دفعة واحدة، وبعضها كانت تحمل علامات حول الرقبة، فيما كانت جثث أخرى لا تزال معلّقة فيها حبال الإعدام، وهي العلامة التي تعرّف نايفه عليها لاحقًا بوصفها جثثًا قادمة من صيدنايا.

انشق نايفه في عام 2017 وفرّ إلى ألمانيا، حيث أدلى بشهادته لاحقًا في محاكمة أحد مسؤولي النظام المتهمين بارتكاب جرائم حرب، كما تحدّث أمام الكونغرس الأميركي، وقد حافظ على سرية هويته لسنوات.

قال: "لقد دمرني هذا نفسيًا وجسديًا… منذ وصولي إلى ألمانيا وأنا أعاني كوابيس". 

أما اليوم، فالمقبرة الجماعية ليست سوى أرض موحلة على جانب طريق سريع، في منطقة مجاورة لعدة قواعد عسكرية وتقبع أربع شاحنات اتصالات عسكرية روسية مهجورة على زوايا الموقع الأربع، تتناثر من أبوابها كتيبات إرشادية باللغة الروسية.

تحكم فصائل إسلامية من المعارضة السابقة سوريا بعد ان أطاحت ببشار الأسد من السلطة، لكن سوريا لا تزال بلدًا يعاني من الاضطراب، ومن بين التحديات الكبرى التي تواجه الحكومة الجديدة في دمشق مسألة كيفية التحقيق في انتهاكات النظام السابق، وكيفية مساعدة العائلات في البحث عن أحبّائهم الذين اختفوا في سجون النظام.

وتسعى السلطات السورية، التي تكافح لتثبيت أركان حكومتها الهشّة، إلى اتخاذ قرارات صعبة بشأن كيفية المضيّ قدمًا في هذا التحقيق.

فالمساءلة الكاملة عن فظائع الأسد ستكون باهظة التكلفة ومعقّدة من الناحية التقنية؛ إذ سيتعيّن نبش المقابر الجماعية، وأخذ عينات حمض نووي، وتحديد أماكن الشهود، واعتقال المشتبه بهم، كما أن هذا التحقيق قد يثير حساسيات سياسية، ويطرح تساؤلات بشأن مدى استعداد المعارضة المسلحة السابقة لفتح ملف انتهاكاتها هي الأخرى خلال سنوات الحرب.

وقد تعهّدت الحكومة الجديدة بتشكيل لجنة للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها النظام السابق، وسمحت لمحققين من الأمم المتحدة وجهات مستقلة بزيارة مواقع مثل سجن صيدنايا، لكنها لم تحسم بعد شكل التحقيق، ولا ما إذا كانت الهيئات الدولية ستشارك فيه.

اظهار أخبار متعلقة


زار محمد إبراهيم، المعلّم السابق، السجن حرًّا للمرة الأولى في فبراير/شباط الماضي، ومشى بين أروقته، مشيرًا إلى زنزانته القديمة والغرفة التي تعرّض فيها لأول جلسة تعذيب.

قال: "لا زلت أسمع الصراخ. أسمع صوت الضرب. كأن المشاهد كلها تحدث أمامي الآن"، ومع ذلك، قال إن زيارة السجن ساعدته على فهم ما عاشه "في الأيام الأولى بعد خروجي، كنت أخاف أن أنام. كنت أظن أن كل ما جرى حلم، وأنني سأستيقظ مجددًا في صيدنايا" ثم أضاف "الآن، أعلم أنه انتهى حقًا".
التعليقات (0)

خبر عاجل