ملفات وتقارير

خريطة فرنسية تشعل قرنا من الدم.. ما قصة المعبد المقدس بين تايلاند وكمبوديا؟

جنود كمبوديون خلال حراسة المعبد المقدس المتنازع عليه- جيتي
يتواصل النزاع بين تايلاند وكمبوديا، وحالة النزوح للسكان على طرفي الحدود في ظل القصف العنيف والاشتباكات المتواصلة، بسبب خلاف تاريخي يمتد لنحو 118 عاما، حول موقع ديني مقدس يرى الجانبان أحقيتهما به، بعد أن تركه الاستعمار كفتيل مشتعل بينهما.

وطلبت كمبوديا من تايلاند عقد محادثاتهما المقررة يوم الأربعاء، والرامية إلى إنهاء النزاع الحدودي المستمر بين البلدين، على أرض محايدة في ماليزيا، وذلك لأسباب أمنية تتعلق باستمرار القتال على طول الحدود المشتركة.

وكتب وزير الدفاع الكمبودي، تيا سيها، في رسالة مؤرخة يوم الاثنين إلى نظيره التايلاندي ناتافون ناركفانيت، أن "القتال المستمر على طول الحدود يفرض ضرورة عقد الاجتماع في مكان آمن ومحايد"، مشيرا إلى أن ماليزيا، التي تتولى الرئاسة الدورية لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وافقت على استضافة المحادثات في العاصمة كوالالمبور.


لكن ما الذي يفجر الصراع بين الدولتين الجارين منذ مطلع القرن العشرين وحتى اليوم، بحيث تدور اشتباكات كل عدة سنوات لتخمد ثم تشتعل مجددا؟.

لعنة الاستعمار

يرجع النزاع الحدودي بين كمبوديا وتايلاند إلى بدايات القرن العشرين، حين كانت كمبوديا واقعة تحت الاستعمار الفرنسي، بينما كانت تايلاند تعرف باسم سيام.

ففي عامي 1904 و1907، أبرمت اتفاقيات حدودية بين فرنسا وسيام لتحديد الحدود الفاصلة بين الطرفين.

لكن تفاصيل الاتفاقيات، تضمنت ما يشبه الفتيل المشتعل، والتي تركت بعض المواقع فيها خاصة لتفسيرات مختلفة لدى طرفي الحدود، وأظهرت الخريطة الفرنسية التي تعود إلى العام 1907، معبد برياه فيهير، داخل الأراضي الكمبودية، لكن تايلاند في المقابل، استندت إلى تفسير جغرافي، وفقا لتقسيم المياه الجبلية في سلسلة جبال دانغريك، وهو ما يجعل المعبد ضمن سيادتها وأراضيها.

ويوجد معبد برياه فيهير، وهو معبد هندوسي قديم، على قمة منحدر صخري في سلسلة جبال دانغريك على الحدود بين كمبوديا وتايلاند، بإطلالة على السهول الكمبودية على ارتفاع يصل إلى 525 مترا فوق مستوى سطح البحر.




تصميم فريد

وبني المعبد المقدس لدى الهندوس، في القرن التاسع الميلادي، وكان مقرا للعبادة والتأمل إبان الإمبراطورية الخميرية، قبل أن يتحول إلى أغراض أخرى على امتداد نحو 300 عام.

وطرأت عمليات بناء وتوسعة خاصة في النصف الأول من القرن الحادي عشر، في عهد ملوك خمير مشهورين مثل ياسوفارمان الأول وسوريافارمان الثاني، وكان المكان مكرسا للإله الهندوسي شيفا، الذي يطلق عليه لقب سيد القمة.

واستخدمت في تشييد المعبد، تصاميم فريدة، بطول 800 متر، وبطراز مختلف عن بقية المعابد الخميرية في تلك الحقبة، ويوجد به سلالم وغرف متصلة، ويعبر عن فكرة موطن الآلهة في الديانة الهندوسية.

ولجأ البناؤون إلى الحجر الرملي المنحوت بزخارف تحمل درجة من التعقيد بسبب الاهتمام برمزية المكان، وأشكال أسطورية ويعد عالميا من التحف المعمارية والدينية النادرة.

تطور النزاع

تطور النزاع بين البلدين مع الحرب العالمية الثانية، إذ دخلت تايلاند ضمن دول المحور واصطفت مع اليابان، وبموجب ذلك دانت السيطرة ليها على المعبد المقدس، لكن هزيمة اليابان والمحور برمته، أدت إلى سيطرة الفرنسيين مجددا على المنطقة، ونقل السيادة إلى أراضي المعبد للكمبوديين مجددا.

وشنت تايلاند هجوما عسكريا عنيفا على المنطقة، وقامت باحتلالها بالقوة، بسبب ضعف القدرات العسكرية لجارتها، وهو ما دفع كمبوديا، لطلب التحكيم الدولي، والفصل بالنزاع حول الأراضي التي يقع فيها المعبد عام 1959.

وفي عام 1962، أصدرت محكمة العدل الدولية، حكما تاريخيا قضى بأن معبد برياه فيهير يقع داخل الأراضي الكمبودية، معتمدة الخريطة الفرنسية لعام 1907، وألزمت تايلاند بسحب قواتها وإعادة أي قطع أثرية كانت قد أخذت من الموقع.

ورغم قبول تايلاند الرسمي بالحكم، إلا أن القرار أثار موجة غضب قومي عارم داخل البلاد، حيث اعتبر خسارة رمزية وسيادية غذّاها شعور بأن الأرض “سلبت” بفعل الإرث الاستعماري الفرنسي.


ووفقا لتقرير مجموعة الأزمات الدولية، صعد حكم العدل الدولية، من حدة الخطاب القومي في تايلاند، بسبب خسارة الموقع الديني المقدس لديهم، وباتت المسألة استعادة هوية وسيادة، في ظل تمسك الكمبوديين بالحكم الدولي.

وجددت المحكمة عام 2013 أحقية كمبوديا، بالمكان لكنها رفضت الخوض في تحديد الشريط الحدودي بين البلدين، ليجد فيه الطرفان ثغرة لتأكيد سيادتهما على المنطقة والتي لم تحسم حتى الآن.

وزاد من حدة التوتر بين البلدين، إدراج منظمة التراث العالمي اليونسكو، معبد بيرياه فيهير، إلى قائمتها للموقع التراثية، وفجر ذلك اشتباكات عسكرية عام 2008.

وبلغ التصعيد ذروته عام 2011، عندما اندلعت مواجهات عنيفة شملت استخدام المدفعية الثقيلة وقذائف الهاون، وأسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى، إضافة إلى نزوح آلاف المدنيين على جانبي الحدود.

أغان تفجر الصراع

وتفجر النزاع الجديد، بعد سنوات من إخماد الاشتباكات، قيام جنود ومدنيين كمبوديين، بالصعود على أنقاض معبد براسات تا موين ثوم، المتنازع عليه في المنطقة الحدودية، وهم يرددون أغان وطنية كمبودية، الأمر الذي فجر غضب التايلانديين، واعتبرت الحادثة إهانة وطنية.

ودخل البلدان في موجة هجمات عسكرية متبادلة، قتل فيها العشرات حتى الآن، وسجل نزوح آلاف المدنيين، عن جانبي الحدود، وتشريدهم عن مناطقهم في ظل القصف المستمر.