شهد
افتتاح
المتحف
المصري الكبير مراسم احتفالية ضخمة، وحملات دعائية غير مسبوقة، وترسيخا لمفهوم الفرعونية شكلا
ومضمونا بطريقةٍ فجةٍ. ومع ذلك، فإن وجود هذا المتحف له وجاهته وقيمته الحضارية،
لكنّ التقييم الحقيقي لا يكون بالمظاهر، بل في ضوء دراسة المنافع
والتكاليف،
وموازنة الرمزية الثقافية بالمردود الاقتصادي، في بلدٍ يعاني من أزمة ديونٍ
متفاقمة وضغوط معيشية متزايدة.
إن افتتاح المتحف الكبير يأتي في وقت يعيش فيه الاقتصاد المصري واحدة
من أكثر مراحله تعقيدا منذ عقود. فالأرقام الصادرة عن صندوق النقد الدولي والبنك
الدولي تشير إلى أن الدين الخارجي للبلاد تجاوز 168 مليار دولار، ويتجه نحو 200
مليار دولار خلال السنوات القليلة المقبلة، في وقت تزداد فيه كلفة خدمة هذا الدين
لتصل إلى نحو 44 مليار دولار سنويا. ومع كل دفعة جديدة من القروض، تتسع الفجوة بين
الموارد الحقيقية والالتزامات المالية، لتتحول المساعدات والقروض الميسرة إلى عبء
طويل الأجل على الخزينة العامة يتحمل تبعاته الجيل الحالي والأجيال القادمة.
التجربة تُظهر أن مثل هذه المشاريع تحتاج إلى سنوات طويلة لتبدأ في تحقيق عائد فعلي، بينما تظل كلفتها المالية حاضرة منذ اليوم الأول
وقد كشفت الأسابيع الماضية صورة من ملامح الضغط المالي الذي تعاني
منه الحكومة. ففي منتصف تشرين الأول/ أكتوبر قامت الحكومة برفع أسعار الوقود للمرة
الثانية خلال عام 2025، بزيادات تراوحت بين 10 و13 في المئة، حيث ارتفع سعر
البنزين 95 إلى 21 جنيها للّتر بعد أن كان 19 جنيها، و92 أوكتان إلى 19.25 جنيها
بدلا من 17.25، كما ارتفع سعر السولار إلى 17.5 جنيها بعد أن كان 15.5 جنيها. هذه
الزيادات، وإن بدت مبرَّرة من منظور ضبط الدعم وتقليص عجز الموازنة، إلا أنها تضرب
مباشرة في قلب معيشة المواطن وتغذي التضخم، لا سيما وأن الوقود يمثل عنصرا رئيسا
في كافة قطاعات النشاط الاقتصادي، وأن المواطنين يعانون من ثبات دخولهم وارتفاع
تكاليف النقل والغذاء.
ومع هذه الضغوط، جاء افتتاح
المتحف المصري الكبير ليثير جدلا واسعا
حول أولويات الإنفاق العام. فهذا المشروع تجاوزت تكلفته المليار دولار وفق
البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة السياحة والآثار وتقارير وكالات الأنباء
الدولية، وربما تقترب من ثلاثة مليارات مع التوسعات،وقد تمّ تمويل نحو 75
في المئة من هذه التكلفة عبر قرضين
ميسّرين من الحكومة اليابانية من خلال هيئة
التعاون الدولي اليابانية (JICA)، بلغ مجموعهما نحو تسعين
مليار ين ياباني، أي ما يعادل نحو
810 ملايين دولار أمريكي. جاء القرض الأول عام
2008 بقيمة 41 مليار ين (قرابة 370 مليون دولار)، والثاني عام 2016 بقيمة 49
مليار ين (قرابة 440 مليون دولار)، بفائدة منخفضة
جدا لا تتجاوز 0.1 في المئة سنويا،
وفترة سداد تمتد إلى أربعين عاما مع عشر سنوات سماح.
أما الحكومة المصرية فقد موّلت النسبة المتبقية، التي تراوحت بين 180
و200 مليون دولار من مواردها المحلية وتبرعات داخلية.
وبذلك، يمكن القول إن المتحف الكبير رغم
كونه من أعظم المشاريع الثقافية في تاريخ مصر الحديث، فإنه أُقيم
في معظمه عبر قروض خارجية طويلة الأجل،
وهو ما يجعله مشروعا ذا قيمة حضارية كبرى، لكنه يُضيف
عبئا ماليا جديدا إلى هيكل الدين الخارجي المصري. وقد جاء افتتاحه في توقيت غير ملائم اقتصاديا. فبينما تكافح الدولة
لتأمين احتياجاتها من العملة الصعبة وسداد التزاماتها الدولية، تُنفق مليارات
جديدة على مشروع رمزي، على أمل أن ينعش السياحة ويجذب ملايين الزوار سنويا. لكن
التجربة تُظهر أن مثل هذه المشاريع تحتاج إلى سنوات
طويلة لتبدأ في تحقيق عائد فعلي، بينما تظل كلفتها المالية حاضرة منذ اليوم الأول.
ورغم استعباد صندوق النقد الدولي لمصر من خلال حفنة القروض التي
يقدمها بالقطارة، فإن الصندوق ذكر في تقرير له في تشرين الأول/ أكتوبر 2025 أن
الاقتصاد المصري يواجه مخاطر مرتفعة بسبب توسّع الدين الخارجي وضعف الإيرادات
الدولارية، رغم وجود تحسن نسبي في بعض المؤشرات. كما أكد على أن وتيرة الإصلاحات
الهيكلية متفاوتة، وأن دور الدولة لا يزال طاغيا في النشاط الاقتصادي، مما يحدّ من
فرص القطاع الخاص. كما أشار إلى أن برنامج الإصلاح الممدّد (EFF) الذي تبلغ قيمته 8 مليارات دولار يمضي ببطء، وأنه تم دمج
المراجعتين الخامسة والسادسة في مراجعة واحدة لإعطاء القاهرة مزيدا من
الوقت لتحقيق التزاماتها. وهذا الكلام، في لغة الصندوق، ليس مكافأة بل إنذارٌ
دبلوماسي بأن مصر تسير بخطى أبطأ من المطلوب، وأن
التمويل المقبل لن يُفرَج عنه إلا عند تحقيق تقدم ملموس في تقليص دور الكيانات
الحكومية والعسكرية في الاقتصاد وتعزيز الشفافية.
ويُجمع خبراء الصندوق على أن هشاشة الاقتصاد المصري تعود إلى هيمنة
الدولة على الاستثمارات، وضعف الصادرات الصناعية، وتزايد الاعتماد على القروض
الخارجية. كما حذّر التقرير من أن أي تراجع في عائدات قناة السويس أو السياحة يمكن
أن يعيد البلاد إلى مربع الأزمة. وتحفّظ الصندوق على
البيانات الرسمية عن انخفاض التضخم إلى نحو 11.7 في المئة، حيث يرى أن التضخم
الحقيقي ما زال مرتفعا بالنسبة لمستويات الدخل، وأن تآكل القوة الشرائية يهدد
الاستقرار الاجتماعي ما لم تُتخذ إصلاحات أكثر جرأة.
اليوم، وبعد مئة وخمسين عاما، يتكرر المشهد بصورة مختلفة في الشكل ومتشابهة في المضمون: افتتاح المتحف المصري الكبير في حفل مهيب، لكنّ كلفته الكبرى جاءت عبر قروض خارجية، في وقت يرزح فيه الاقتصاد تحت أثقال الدين والعجز
وفي ظل هذه الصورة المتشابكة، يبدو المشهد وكأن مصر تعيش معادلة
صعبة: حكومة تسعى لإظهار صورة دولة تتقدم بثقة نحو المستقبل عبر مشاريع ضخمة
واتفاقيات مع مؤسسات دولية، في مقابل واقع اجتماعي واقتصادي يعاني من ضغوط متزايدة
وغلاء مستمر، وطبقة وسطى تتآكل بين الأسعار والفواتير، واستمرارية الاعتماد على
القروض الخارجية كمنقذ مؤقت لا كحل جذري وفق سياسة ترقيع
الديون التي انتهجتها
الحكومة.
ومن زاوية أخرى، تبدو المفارقة صارخة: الدولة التي تحتفل بافتتاح
أكبر متحف في العالم، تموّله في جزء كبير منه عبر ديون جديدة، هي نفسها التي ترفع
أسعار الوقود وتقلّص الإنفاق الاجتماعي لتسد فجوات الموازنة. وبين صورة المتحف
المضيء عند سفح الأهرامات، وصورة المواطن الذي يحسب تكلفة لتر البنزين، تتجسد
معضلة الاقتصاد المصري في أكثر صورها وضوحا: إنجازات تُعرض على الشاشات، وديون
تتراكم في الدفاتر، وحياة تزداد صعوبة يوما بعد يوم.
وكأن التاريخ يعيد نفسه بعد قرنٍ ونصف من
الزمان، فحين افتتح الخديوي إسماعيل قناة السويس عام 1869 أقام احتفالا أسطوريا
دوّى صداه في أوروبا كلها، واستدعى ملوكا وأباطرة، وأنفق ما لم تحتمله الخزانة
المصرية، حتى انتهى الأمر بتضخم الديون ووقوع البلاد في قبضة الأجانب. واليوم،
وبعد مئة وخمسين عاما، يتكرر المشهد بصورة مختلفة في الشكل ومتشابهة في المضمون:
افتتاح المتحف المصري الكبير في حفل مهيب، لكنّ كلفته الكبرى جاءت عبر قروض
خارجية، في وقت يرزح فيه الاقتصاد تحت أثقال الدين والعجز.
إنها المفارقة التي تُلخّص معضلة مصر
الاقتصادية عبر العصور: الطموح الحضاري
اللامحدود في مواجهة الإمكان المالي المحدود.
وبين إسماعيل الذي أراد أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا، وحكومات الحاضر التي تسعى
لتجميل الصورة أمام العالم، تظل الحقيقة واحدة: أن النهضة لا تُبنى بالاحتفالات
المبهرة، بل بالإصلاحات الراسخة، وأنّ المجد لا يُشترى بالقروض، بل يُستعاد بالعمل
والإنتاج، فـما أشبه الليلة بالبارحة.
x.com/drdawaba