صحافة دولية

صحفية أمريكية: ما حدث في غزة قد يكون أسوأ مما نتصور وحان وقت الحساب

أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن نسبة الدمار في القطاع بلغت نحو 90 بالمئة بعد عامين على حرب الإبادة- إيه بي سي نيوز
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقال رأي للصحفية الأمريكية، ليديا بولغرين، تناولت التكلفة الإنسانية الحقيقية للحرب الإسرائيلية على غزة، مسلطاً الضوء على محاولات الإنكار والتقليل من حجم المأساة في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، رغم الأدلة الموثقة على حجم الكارثة، وقالت فيه إن ما حدث في غزة ربما كان أسوأ مما نعتقد.

بولغرين، قالت إن الكثير من الأمريكيين قد يميلون لعدم تصديق هول ما حدث في غزة "ففي النهاية، كانت كارثة مولت بأموالنا ونفذت بأسلحتنا ووافقت عليها حكومتنا، ونفذها أحد أقرب حلفائنا، فلا عجب أن يقلل البعض من من شأن الدمار". وأضافت ان من ينكرون، يبررون هذا من خلال التشكيك في الأرقام.

وتطرقت الكاتبة كيف تم تيسير الأمر على النحو التالي: "عدد القتلى، الذي أحصته وزارة الصحة التي تديرها حماس، مبالغ  فيه من أجل إثارة الغضب الدولي، وإن لم يكن الأمر كذلك، فإن معظم القتلى كانوا من مقاتلي حماس، وليسوا مدنيين بالتأكيد، هكذا يواصلون التبرير بالقول: "على أي حال، لا يمكن أن يكون الأمر أسوأ من أهوال أخرى في أماكن أخرى، في جنوب السودان أو جمهورية الكونغو الديمقراطية والتي لا نتحمل نحن الأمريكيين فيها أي مسؤولية".

وتعلق بولغرين أنك لو أخذت هذه الأحداث مجتمعة، فهي تمثل  ذخيرة للتبسيط والإنكار، ورغم كل هذا فقد حان وقت الحساب، وبعد  عامين من العنف المتواصل، لا يزال وقف إطلاق نار هش مستقرا وغير مؤكد في غزة، تاركا مشاهد بهيجة لأسرى إسرائيليين يجتمعون بعائلاتهم، وللأسرى الفلسطينيين العائدين إلى ديارهم بعد سنوات من الاعتقال.

وعلينا كما تقول مقارنة هذه المشاهد بتلك التي وجدها  الناجون: مشهد كارثي من الدمار الشامل والخسارة الفادحة، واليوم، لدينا فرصة، لو أردنا أن نبدأ في اكتشاف التكلفة الحقيقية لهذه الحرب،  وعندها قد نجد أنها أسوأ مما كنا نعتقد.

وتضيف الكاتبة، علينا أولا أن نتحدث عن الأرقام، ففي غزة يصل عدد الموتي إلى 68,229 شخصا تقريبا، وبحسب آخر الإحصاءات التي جمعتها وزارة الصحة التي شأنها شأن بقية المؤسسات في القطاع الذي تديره حماس، وهو ما أثار هذا شكوكا في تقديراتها، إلا أن خبراء في إحصاء قتلى الحرب أخبروا الكاتبة أن إحصاءات الوزارة دقيقة على نحو غير معتاد، فهي لا تقتصر على أسماء الأفراد الذين تأكدت وفاتهم بسبب الحرب فحسب، بل تشمل أيضا أعمارهم وجنسهم، والأهم من ذلك، أرقام هويتهم الشخصية التي يسهل التحقق منها.

ونقلت عن مايكل سباغات، الأستاذ في رويال هولواي بجامعة لندن، والذي درس حصيلة ضحايا الحرب لعقود: "نعلم أن وزارة الصحة، لأسباب مختلفة، متحفظة للغاية في إدراج أسماء الأشخاص في القائمة"، وأضاف أن هناك مستوى ملحوظا من الشفافية و"المعلومات أفضل بكثير مما نعرفه عن النزاعات الأخيرة في تيغراي والسودان وجنوب السودان".

في الواقع، والكلام للكاتبة بولغرين، على الرغم من مصداقية هذه الإحصائيات، يشتبه العديد من الخبراء في أنها أقل بكثير من العدد الحقيقي، حيث أجرى سباغات ومجموعة من الباحثين مسحا شمل 2,000 أسرة في غزة، وأشار إلى أن الأرقام الرسمية ترجح أن تكون أقل من عدد قتلى الحرب بنحو 39 بالمئة، ومع ذلك، لا تميز أرقام القتلى بين المقاتلين والمدنيين.

وتقدم هذه الحقيقة ادعاء آخر: أن معظم القتلى هم من مقاتلي حماس، وبالتالي  فهم أهداف مشروعة، لكن مسح سباغات يؤكد جانبا آخر من أرقام القتلى: غالبية القتلى - حوالي 56 بالمئة - كانوا من النساء والأطفال وكبار السن، ويقول سباغات: "في أي صراع تقليدي، سيكون عدد الذكور في سن الخدمة العسكرية أكبر مما نراه هنا" و "نسبة النساء والأطفال وكبار السن مرتفعة بشكل غير معتاد".

ويكفي أن ننظر إلى بقايا غزة المدمرة لندرك أن وابل القنابل والصواريخ الإسرائيلية المتواصل، قد سقط على الشباب والكبار، الرجال والنساء، بقوة متساوية، ومع ذلك فالإحصاء الدقيق للقتلى لا يكشف إلا جزءا من التكلفة البشرية للحرب، ففي العديد من النزاعات الأخيرة من دارفور وتيغراي والكونغو إلى اليمن، مات عدد مماثل أو أكثر من الجوع والمرض كما ماتوا بسبب العنف، وتسمى هذه الوفيات وفيات غير مباشرة، وغالبا ما تحسب بقياس معدلات الوفيات قبل بَدْء القتال وبعده،  وبحسب ما قال الخبراء للكاتبة فإن إدراج هذه الوفيات أمر مهم، لأن إغفالها يحجب التكلفة الحقيقية للحرب.

وتقول أنها رأت هذا بنفسها في دارفور في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث كانت الهجمات القاتلة التي شنتها ميليشيات الجنجويد مجرد بداية البؤس، وأُجبر القرويون على الفرار من منازلهم واحتشدوا في مخيمات مؤقتة بائسة، ولم تصل إليهم المساعدات إلا بعد أسابيع أو أشهرا، وكان الأطفال دون سن الخامسة والنساء الحوامل والمعاقون وكبار السن أول من ماتوا، ليس بسبب الرصاص أو القنابل، ولكن من الظروف التي يخلقها العنف.

وتقول بولغرين أنها قضت في عام 2006 عدة أيام بمستشفى في شرق الكونغو، من أجل توثيق الوفيات غير المباشرة وتداعيات الحرب على الأطفال. وشاهدت طفلا صغيرًا يدعى أموري يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكان مصابًا بالحصبة وهو مرض يمكن الوقاية منه بسهولة بالتطعيمات الروتينية، ويمكن علاجه بالأدوية الحديثة، وكان واحدا من بين العديد من الأطفال الذين شاهدتهم الكاتبة ذلك الأسبوع يموتون من أمراض يمكن الوقاية منها.

وتعلق أن هذه المعدلات المرتفعة للوفيات غير المباشرة شائعة في المناطق النائية من الدول الشاسعة الفقيرة، حيث يتشتت السكان على نطاق واسع وتواجه المساعدات صعوبة في الوصول إليهم، أما غزة، فهي مختلفة، فهي صغيرة، بحجم مدينة ديترويت تقريبا ويسهل الوصول إليها برا.

وقبل الحرب، كانت غزة  تعتبر من أعلى معدلات المساعدات الإنسانية للفرد في العالم وكان سكانها يتمتعون بصحة أفضل بكثير في المتوسط مقارنة بسكان مناطق الصراع الأخرى، وقد وفرت المستويات العالية من التطعيم للأطفال حماية للأطفال الصغار من الأمراض المعدية، مثل شلل الأطفال، وكان من المفترض أن يعني هذا أن نسبة الوفيات غير المباشرة ستكون أقل من إجمالي الوفيات في الحروب الأخرى.

وطوال معظم فترة الصراع، كان الأمر كذلك، إلا أن قرار إسرائيل تقييد وصول المساعدات إلى غزة بشكل حاد، وأحيانا منعها تمامًا، دفع القطاع إلى المجاعة هذا العام، ودمرت بنيته التحتية الصحية، واضطر معظم سكانه البالغ عددهم مليوني نسمة إلى الفرار، وغالبا عدة مرات، وأجبروا على العيش في ظروف غير صحية ومعرضة للخطر، ولا يمكننا حتى الآن معرفة حجم الضرر الذي تسبب فيه ذلك،
وتأمل بولغرين أن يؤدي وقف إطلاق النار إلى تحسن الأوضاع.

ومع ذلك، من بعض النواحي، قد تكون هذه الفترة العصيبة قاتلة لسكان غزة، فمع كل هذا الدمار، لن يجد الكثير ممن يعودون إلى منازلهم سوى الأنقاض، هناك كل الأسباب لتوقع أن تسعى إسرائيل إلى استخدام تدفق المساعدات الإنسانية، الغذاء والماء والكهرباء والإمدادات الطبية والعمال، كورقة ضغط في مفاوضات معقدة حول مستقبل غزة، فبموجب شروط وقف إطلاق النار، الذي خضع لاختبارات قاسية بالفعل، كان من المفترض أن تدخل 600 شاحنة محملة بالمساعدات إلى غزة يوميا، ولكن منذ توقف القتال، ووفقا للأمم المتحدة، وصل أقل من 100 شاحنة في المتوسط يوميا.

ويعيش سكان غزة في فقر مدقع حيث نقلت عن أليكس دي وال والمدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي بجامعة تافتس وأحد أبرز خبراء العالم في المجاعة: "سأكون مندهشا للغاية إذا كان هناك أي شيء أقل من 50,000 حالة وفاة غير ناجمة عن إصابات"، وإذا كان دي وال قريبا من الصواب، فإن هذا الصراع سيقتل 7.5 في المائة من سكان غزة قبل الحرب في غضون عامين فقط، وهو بالفعل، من حيث النسب المئوية، أكثر فتكا من الحروب في اليمن وسوريا والسودان وأوكرانيا.

وسيكون من المستحيل إخفاء الحقيقة: فصغر حجم غزة وسهولة الوصول إليها والبنية التحتية للمساعدات تمنع ذلك. وبالمقارنة مع الصراعات الأخرى، يمكن تحديد عدد القتلى، سواء المباشرين أو غير المباشرين، بدقة غير عادية، وسيجعل هذا من الصعب التقليل من أهمية ما حدث أو إنكاره، ولكنه لن يكون مستحيلا  في مقابلة مع برنامج "60 دقيقة" يوم الأحد، وصف جاريد كوشنر، صهر الرئيس دونالد ترامب أنقاض غزة التي شاهدها أثناء زيارة برفقة الجيش الإسرائيلي:"بدا الأمر كما لو أن قنبلة نووية قد فجرت في تلك المنطقة".

وعندما سئل عما إذا كان يعتقد أن ما حدث في غزة كان إبادة جماعية، رد بشل سريع "لا"، ورد رفيقه ستيف ويتكوف بنفس الطريقة "لا لا، كانت هناك حرب". الأنقاض تروي قصة، والناس الذين صنعوها يروون قصة أخرى. والحساب سيكون بناء على أي قصة نختار تصديقها.