مقالات مختارة

غزة: تحديات ما بعد الاتفاق

الاتفاق يمثل نافذة واقعية نادرة لإعادة إدماج غزة في الترتيبات الإقليمية- جيتي
يشكّل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي وُقّع في شرم الشيخ في أكتوبر/تشرين الأول 2025، محطة فارقة في مسار الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وفي التوازنات الإقليمية التي أعادت حربُ غزة الأخيرة تشكيلَها.

بعد أشهر من القتال والدمار غير المسبوق، ومع تصاعد المخاوف الدولية من انهيار الأوضاع الإنسانية، جاء الاتفاق كترتيب مرحلي يهدف إلى تهدئة الميدان، وفتح المجال أمام معالجة تدريجية للقضايا السياسية والأمنية والإنسانية.

لقد جمع الاتفاق بين انسحاب عسكري جزئي، وإطلاق رهائن وأسرى، وتوسيع نطاق المساعدات الإنسانية، مع وعود بخطوات لاحقة تتناول قضايا الحكم والأمن في القطاع.

ورغم هشاشته وتعدّد الأطراف التي تراقبه أو تسعى إلى توجيهه، فإن الاتفاق يمثل نافذة واقعية نادرة لإعادة إدماج غزة في الترتيبات الإقليمية، وتحويل الهدنة إلى بداية لمسار استقرار أطول مدى.

في هذا الإطار، تتحمل الدول العربية، وبخاصة مصر والسعودية والإمارات وقطر، مسؤولية مركزية في تثبيت الاتفاق، وتهيئة البيئة السياسية والأمنية والاقتصادية التي تسمح بتحويله إلى عملية مستدامة.
من بين هذه الدول، تبرز مصر بوصفها الفاعل الأكثر ارتباطًا بتفاصيل الملف وأطرافه، والأقدر على الجمع بين أدوات الوساطة السياسية والميدانية وبين شرعية الدور العربي في القضية الفلسطينية.

فمنذ اندلاع الحرب، أدارت القاهرة قنوات تفاوض مفتوحة مع جميع الأطراف، وسَعَت إلى ضبط إيقاع العمليات العسكرية والإنسانية، مستندة إلى موقعها الجغرافي، وصِلاتها الأمنية مع إسرائيل، وعلاقاتِها التاريخية بالسلطة الفلسطينية والفصائل على حدّ سواء. ومع توقيع اتفاق شرم الشيخ، تجد مصرُ نفسها أمام فرصة ومسؤولية في آن واحد: فرصة لترسيخ موقعها كضامن رئيسي للتهدئة، ومسؤولية لمنع عودة المواجهات المسلحة أو انهيار التفاهمات بسبب غياب التنسيق الميداني والسياسي.

المطلوب اليوم هو أن تواصل مصر دورَها كوسيط فعّال، لكن ضمن إطار ٍ أوسع يضم شركاء عربا قادرين على المساندة السياسية والمالية.

فالقاهرة وحدها لا يمكنها أن تتحمّل عبء تثبيت الاتفاق في ظل التعقيدات الداخلية الفلسطينية والانقسام المستمر بين الضفة وغزة، ولا في ظل استمرار الغموض في الموقف الإسرائيلي من مستقبل القطاع. لذلك فإن نجاح الدور المصري يتوقف على وجود دعم عربي متماسك، وعلى تقاسم للأدوار يتيح لمصر التركيز على الملفات الأمنية والسياسية، بينما تنخرط الدول الأخرى في ملفات الضمانات الدولية وإعادة الإعمار والتنمية.

إن ما تحتاجه مصر في هذه المرحلة هو غطاء سياسي عربي واضح، يؤكد شرعية دورها ويعزّز قدرتها على التفاوض مع الأطراف الدولية.

فالسعودية، بثقلها السياسي وعلاقاتها الوثيقة مع واشنطن والعواصم الغربية، يمكنها أن تضطلع بدور محوري في توفير الضمانات الدولية المطلوبة للاتفاق، وفي ربط تثبيت الهدنة بآفاق عملية سياسية أوسع.

من خلال موقعها، تستطيع الرياض أن تدفع في اتجاه تفاهمات أمنية واقتصادية تضمن للفلسطينيين الحد الأدنى من الأمان والقدرة على إعادة بناء حياتهم، مع الحدّ من الانتهاكات الإسرائيلية التي تهدد أي اتفاق بالانهيار.

أما الإمارات، فتمتلك خبرة مؤسسية وشبكة علاقات دولية متوازنة يمكن توظيفها لتفعيل آليات التنفيذ والمتابعة. ويمكن لـ أبوظبي أن تشارك في إنشاء آلية رقابة عربية – أممية على تنفيذ الاتفاق، بما في ذلك مراقبة الانسحابات والتدفقات الإنسانية. كما يمكنها أن تسهم في الجوانب الفنية والتنظيمية لعملية إعادة الإعمار، التي تحتاج إلى إدارة منضبطة وشفافة تتفادى الازدواجية التي عرقلت جهودا سابقة.

من جهتها، تستطيع قطر أن تواصل دورها الإنساني والوساطي في الملفات الأكثر حساسية، ولا سيما ما يتعلق بإطلاق الأسرى وتأمين المساعدات، وتوفير قنوات التواصل مع الفصائل الفلسطينية ومع القوى الإقليمية والدولية.

إن وجودها في هذا المسار ليس مجرد إضافة رمزية، بل عنصر توازن مهم، يتيح الجمع بين خبرتها في الوساطة الميدانية وقدرتها على التحرك الإنساني السريع.

ومع أن هذه الأدوار متكاملة، إلا أن نجاحها يتوقف على قدرة مصر على قيادة التنسيق بينها ضمن إطار عربي موحّد. فبدون مركز ثقل عربي واضح يضبط إيقاع الأدوار المختلفة، ستظل جهود التثبيت والإعمار عرضة للتنافر والتسييس. لذلك فإن القاهرة، إلى جانب إدارتها المباشرة للملف الأمني، مطالَبة بتفعيل آلية عربية دائمة لمتابعة تنفيذ الاتفاق وتقييم تقدّم بنوده، على أن تشمل اجتماعات ٍ دورية تجمع الدول الأربع وممثلين عن السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة.

إلى جانب المسار السياسي والأمني، يبقى البعد الاقتصادي والإنساني شرطا أساسيا لترسيخ الهدنة وتحويلها إلى استقرار. لا يمكن لأي اتفاق أن يصمد في ظل استمرار المعاناة المعيشية للفلسطينيين.
إعادة الإعمار ليست فقط مطلبا إنسانيا، بل ضرورة استراتيجية لخفض دوافع التوتر والعنف. من هنا تأتي أهمية إنشاء صندوق عربي – دولي لإعادة إعمار غزة، تشارك في تمويله السعودية والإمارات وقطر، ويُدار بمساهمة مصرية فعّالة لضمان الشفافية وتوحيد القنوات المالية.

هذا الصندوق يجب ألا يكون مجرد أداة لتقديم مساعدات عاجلة، بل إطارا تنمويا طويل المدى يربط بين إعادة بناء البنية التحتية وتعزيز الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل للفلسطينيين، بما يمكّنهم من إدارة حياتهم بكرامة واستقلال نسبي.

كما يمكن لمصر أن تلعب دورا مركزيا في الجانب اللوجستي من عملية الإعمار، عبر تسهيل دخول المواد والمعدات من خلال معبر رفح وتنظيم حركة العمالة والسلع. ذلك لا يتطلب فقط تنسيقا أمنيا مع إسرائيل، بل أيضا إشرافا فنيا على مراحل الإعمار، يضمن سلامة التنفيذ ويَحُول دون استخدام الموارد في أغراض غير مدنية. وهنا، يمكن للخبرة المصرية في إدارة المشروعات الكبرى أن تقدم نموذجا عمليا لاستعادة الثقة بين المانحين والمستفيدين.

التحدي الأكبر يكمن في ربط عملية الإعمار بالمسار السياسي، لا فصلها عنه كما حدث في تجارب سابقة. فالإعمار بدون حل سياسي يبقى هشّاً، كما أن الحلول السياسية دون تحسين الواقع المعيشي سرعان ما تفقد معناها.

الرؤية العربية الواقعية يجب أن تدمج بين المستويين: تعزيز الهدوء والأمن من خلال ترتيبات عربية – دولية، ودعم التنمية من خلال شراكات مستدامة. هذه الرؤية لا تسعى إلى تجاوز التعقيد، بل إلى إدارة التناقضات القائمة بطريقة تمنع انهيار الاتفاق وتمنح الفلسطينيين أفقا أوسع للحياة.

في المحصلة، يشكّل اتفاق غزة 2025 فرصة لتجديد الدور العربي في القضية الفلسطينية على أسس عملية وتعاونية. فبعد سنوات من التراجع والتشتت، يمكن للعرب، بقيادة مصر وبدعم من السعودية والإمارات وقطر، أن يثبتوا قدرتهم على تحويل المبادرات إلى مسارات فعلية.

الواقعية هنا لا تعني الاكتفاء بالحد الأدنى، بل تعني بناء خطوات متراكمة تفضي إلى وضع أكثر استقرارا وعدلا للفلسطينيين، وتقلّل من احتمالات الانفجار المتكرر الذي أنهك المنطقة.

القدس العربي