مقالات مختارة

لم نرَ "الهولوكوست" ورأيناه في غزة

الأناضول
لا شكَّ أنَّ سؤالَ الأخلاق في العلاقات الدولية أمرٌ مهمٌّ، وسيزداد أهميةً كلما تمكَّن الناسُ من متابعة الأحداث من خلال السوشيال ميديا وما بعدَها. ربَّما لو نظر أحدُنا إلى المستقبل إلى مدى نصفِ قرنٍ إلى الأمام مثلاً، سيكون توثيقُ الأحداث أكثر دقة، ويصعب إنكار ممارسة أعمال منافية للأخلاق الإنسانية مثل الإبادة والتطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيلُ على الفلسطينيين اليوم.

لم يرَ العالم «الهولوكوست» الذي حدث لليهود في ألمانيا ومحارق بولندا، لكنَّ التاريخَ سجَّل هذه السقطة الإنسانية في مستنقع العنف البدائي، وأدَّى هذا الحدث الكبير والمروع لما نعرفه الآن باتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية (Genocide Convention) عام 1948، التي دخلت حيز التنفيذ عام 1951.

المحرقة، التي عُرفت لاحقاً باسم «الهولوكوست»، كشفت للعالم مدى وحشية الإبادة الجماعية، ودفعت إلى التفكير في وضع قانون دولي لمنع تكرارها، لكنَّها للأسف تتكرّر اليوم وعلى يد أبناء الناجين من المحرقة وأحفادهم، تتكرَّر في غزة، مع فارق أساسي وهو أنَّ كلَّ شيء موثق بالصوت والصورة.

فهل سيقدم العالم المتحضر اليوم على حوار جاد وجديد عن الإبادة في غزة؟ وهل سيؤدي ذلك إلى تغليظ العقوبات أو مراجعة اتفاقية الإبادة السابقة؟ نحن الآن أمام نوعٍ جديدٍ من الإبادة، موثق وعلني، يمارَس أمام أعين العالم، وتشارك في تغطيته مئاتُ القنوات ووسائل الإعلام، ومع ذلك لا يتحرَّك ضميرُ العالم بالشكل الذي يليق بالكارثة، كما تحرَّك بعد الحرب العالمية الثانية.
تفكيك منظم لبنية مجتمع بأكمله: قتل جماعي، تجويع، حصار، تدمير للبنية التحتية

إنَّ ما نشهده اليوم في غزة ليس مجرد حرب أو عملية عسكرية، بل هو تفكيك منظم لبنية مجتمع بأكمله: قتل جماعي، تجويع، حصار، تدمير للبنية التحتية، استهداف للمستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين. إنَّها ليست حرباً على فصيل مسلح كما تدّعي إسرائيل، بل حرب على فكرة الوجود الفلسطيني ذاته. هذا هو جوهر الإبادة كما عرّفتها اتفاقية 1948: «أفعال ترتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية بشكل كلي أو جزئي». فهل ثمة وصف أدق لما يحدث في غزة اليوم؟

في زمن «الهولوكوست»، لم يكن العالم يملك وسائل الإعلام الحديثة ولا الكاميرات التي توثق الجرائم في حينها، فالكثير من الفظائع لم تُكتشف إلا بعد التحرير وسقوط النظام النازي. أمَّا اليوم، فكل شيء يُعرض لحظة بلحظة أمام ملايين الشاشات. ومع ذلك، لا يبدو أنَّ توثيق الجرائم كافٍ لإيقاظ الضمير الإنساني، أو تحريك إرادة دولية حقيقية لوقف المذبحة.

وهنا يبرز سؤال جوهري: هل فقدت الإنسانية معناها في عالم تحكمه المصالح؟ وهل تحولت الأخلاق إلى ترفٍ فكري لا مكان له في العلاقات الدولية؟ ما معنى أن تعقد الأمم المتحدة جلسات متكررة، وأن تخرج المنظمات الحقوقية ببيانات استنكار، بينما تستمر آلة القتل في عملها بلا توقف؟

الازدواجية الأخلاقية في النظام الدولي اليوم أصبحت فاضحة. فالعالم الذي شرّع قوانين بعد «الهولوكوست» لمنع تكرار الإبادة الجماعية هو نفسه الذي يصمت أمام إبادة تُبثّ مباشرة على الهواء.

يبدو أن القانون الدولي لم يُكتب لحماية الضعفاء، بل لخدمة الأقوياء. فحين يكون القاتل حليفاً استراتيجياً، تتغير القواعد ويُعاد تفسير النصوص، وتُعطّل القرارات، وتُبرَّر الجرائم باسم «حق الدفاع عن النفس».

ما يحدث في غزة اليوم اختبار حقيقي ليس فقط للقانون الدولي، بل لضمير الإنسانية جمعاء. فإما أن يثبت العالم أنه تعلم من دروس التاريخ، وأنه قادر على مواجهة الظلم مهما كان مصدره، أو أن يسقط مرة أخرى في فخ الازدواجية والنفاق الأخلاقي. فالتاريخ لا يرحم، وسيكتب يوماً أن الإنسانية رأت الإبادة بالصوت والصورة، لكنها لم تحرّك ساكناً بما يليق بالحدث.

من المهم أن ندرك أن الصمت اليوم جريمة بحد ذاته. فحين تسكت الحكومات والمؤسسات الدولية، يبقى صوت الشعوب هو الأمل الأخير. وهذا ما نراه في المظاهرات العالمية التي تخرج تنديداً بالعدوان، وفي الحملات التي يقودها ناشطون من كل الجنسيات دفاعاً عن الحق الفلسطيني. هذه الأصوات ربما لن توقف الحرب اليوم، لكنها تضع الأساس لعالم جديد لا تقوده الرواية الرسمية بل الوعي الجمعي الإنساني.

قد لا يوقف هذا الجيل الإبادة، لكنه سيحاكمها في الذاكرة. كما حُوكم النازيون بعد «الهولوكوست»، سيأتي يوم تُعرض فيه جرائم غزة أمام محكمة الضمير والتاريخ. فالفارق بين الأمس واليوم أن كل شيء موثق، ولا يمكن لأي جهة أن تدّعي الجهل أو تنكر ما حدث.

إن ما يجري في غزة يجب أن يدفع العالم لإعادة التفكير في منظومة القيم والقوانين التي تحكمه. فربما تكون الحاجة اليوم إلى «اتفاقية غزة» جديدة، تُعيد تعريف الإبادة الجماعية بما يتناسب مع واقع التكنولوجيا الحديثة وتوثيق الجرائم في زمن الإعلام الرقمي. لم تعد الإبادة مجرد أفعال تُمارس في الظل، بل مشاهد تُبثّ في وضح النهار، ومع ذلك لا تجد من يوقفها.

إن الإنسانية التي لم ترَ «الهولوكوست» رأته اليوم في غزة. فهل ستتعلّم هذه المرة، أم سننتظر محرقة جديدة لنكتب بعدها اتفاقية جديدة؟

لكن، ها هو العالم بدأ في الإفاقة بعد هذه المذابح الإسرائيلية المروّعة، فها هي دول العالم توالي الاعتراف بالدولة الفلسطينية نكاية في الهمجية الإسرائيلية والأفعال الشنيعة التي يمارسها الإسرائيليون في قطاع غزة والضفة الغربية.

الشرق الأوسط