مقالات مختارة

هل بدأ تفكيك الميليشيات في العراق؟

الأناضول
عملت إيران على مدى 44 عاما من أجل تحقيق حلم الهلال الشيعي، عبر سوريا ولبنان، ثم أصبح العراق نواته الرئيسية بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، لكن زلزال سوريا، وتقطع أوصال هذا الهلال أحدثا تحولا جيوسياسيا كانت له ارتدادات حتمية على هذه النواة. وقد قلنا في مقال نشر بعد سقوط نظام بشار الأسد بشهر واحد، أن زيادة ضغط إدارة ترامب على إيران، ستفرض على الفاعل السياسي الشيعي الذي يحتكر القرار السياسي في العراق اليوم، خيارات صعبة جدا، ليس سياسيا فقط، وإنما اقتصاديا وعسكريا أيضا.

وتحدثنا عن أربعة ملفات أساسية؛ وهي ملف الغاز والكهرباء التي يستوردها العراق من إيران، والتي كانت تحظى باستثناء أمريكي دوري بداية من لحظة فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوباتها على إيران في العام 2018، وبالفعل أعلنت الولايات المتحدة في شباط 2025 إنهاء الاستثناءات الممنوحة للعراق لشراء الكهرباء الإيراني، في سياق ما أطلق عليه حملة «أقصى الضغوط» تجاه طهران، ولايزال الصغط مستمرا بشأن ملف الغاز.

ثم الملف الثاني وهو تهريب الدولار الأمريكي إلى إيران، وبالفعل استخدمت الولايات المتحدة هذه الأداة الثمينة بشكل فعال لمنع وصول الدولار الأمريكي إلى إيران عبر البنك المركزي العراقي، وعبر البنوك المملوكة لجماعات سياسية وميليشيات حليفة لها. والملف الثالث هو ملف الواردات التجارية العراقية من إيران، المدنية والعسكرية (بخلاف الغاز والكهرباء) فقد وصلت الواردات المدنية في عام 2024 فقط، إلى ما يزيد عن 12 مليار دولار، وهذا الملف ما زال لم يفتح أمريكيا بعد، ولكنه مرشح لذلك.

أما الملف الأهم الذي تحدثنا عنه يومها، فهو ملف الميليشيات العراقية التي ترتبط عضويا بالحرس الثوري الإيراني، والتي يُطلق عليها في العراق الميليشيات الولائية (لإيمانها بالولي الفقيه واتباع أوامره بوصفها أوامر مقدسة واجبة الطاعة) ويتشكل أغلبها من الميليشيات العاملة تحت مسمى «الحشد الشعبي»، وقلنا إن جميع المؤشرات تذهب إلى أن ثمة قرارا أمريكيا بعدم السماح لهذه الميليشيات بالبقاء على ما هي عليه، وأن مستقبل هذه الميليشيات أصبح على المحك بعد أن استنفدت الولايات المتحدة حاجتها إليها في سياق الحرب على داعش، والواقع أن الولايات المتحدة كانت أحد الأسباب التي ساهمت عمليا في تغول هذه الميليشيات عسكريا (عبر القبول بمشاركتها في عملياتها العسكرية، وعبر إمدادات السلاح وتوفير الغطاء الجوي لها) وسياسيا (من خلال التغطية على انتهاكاتها المنهجية والواسعة وغض الطرف عن أدوارها السياسية).

اليوم بات واضحا أن استهداف الميليشيات العراقية بوصفها ذراعا إيرانيا، بات جزءا من محاصرة إيران، خاصة بعد الضربة القاصمة التي تعرضت لها في حرب الـ12 يوما، والتي جعلتها اليوم تنازع من أجل إعادة توازنها، ومحاولة تجاوز نتائج الضربة وتداعياتها، لاسيما أن إيران باتت تدرك أن القادم قد يكون أكثر خطورة؛ عسكريا من خلال إمكانية ضربها مجددا، أو عبر تجريدها من الصواريخ تماما وليس تدمير برنامجها النووي وحسب، واقتصاديا بسبب العقوبات الاقتصادية التي ستنضم الى فرضها أوروبا أيضا، وسياسيا بعد تصاعد الحديث عن تغيير النظام.

وقد بدأ ذلك مع الاعتراض الأمريكي على تشريع قانون جديد لهيئة الحشد الشعبي وهو الغطاء القانوني الذي يشرعن وجود الميليشيات العراقية، ثم مطالبة بغداد بدمجها مع القوات العسكرية الرسمية، لا سيما أن القانون الجديد يعطي هذه الميليشيات أدوارا أمنية واسعة وليست عسكرية فقط، ويكرس وجودها كدولة موزاية من خلال كيانات اقتصادية كبيرة مثل شركة المهندس التي ستشكل النواة لاقتصاد خاص بتلك الميليشيات يوفر لها موارد فائقة بعيدا عن أي إمكانية للمنافسة.

وفي تموز 2025 وصل الأمر إلى تهديد الولايات المتحدة للعراق باتخاذ إجراءات «ضد المؤسسات المالية التي تمول الحشد الشعبي» كما جاء على لسان المتحدثة باسم وزاة الخارجية الأمريكية. وهو تهديد خطير لأنه يشمل البنك المركزي العراقي ووزارة المالية بوصفهما الجهات التي تمول هذه الميليشيات، وفقا لقانون الموازنة العامة!

وفي 17 أيلول 2025 قررت الولايات المتحدة رفع تصنيف أربع ميليشيات عاملة في الحشد الشعبي، من كونها حسب التصنيف «منظمة إرهابية عالمية مصنّفة بشكل خاص» (SDGT) إلى «منظمة إرهابية أجنبية» (FTO) والميليشيات المعنية بهذا القرار هي حركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء، وحركة أنصار الله الأوفياء، وكتائب الإمام علي، وقبلهم وضعت كتائب حزب الله تحت هذا التصنيف. وهذه الخطوة يمكن أن تكون غطاء لأي ضربة إسرائيلية محتملة لهذه الميليشيات، أو حتى ضربة أمريكية.

وهذا التصنيف يُجرّمُ أي شخص أو كيان تتعامل معه الولايات المتحدة يقدم دعما ماليا لهذه التنظيمات، ويخضعه للعقوبات بسبب ذلك. وهذا يعني أن مجرد استمرار الألوية التابعة لهذه الميليشيات ضمن الحشد الشعبي، أو تلقيها أموالا من وزارة المالية العراقية، سيعرض الأخيرة للعقوبات الأمريكية، وقد يشمل ذلك مجلس الوزراء ومجلس النواب، في حال أقروا ضمن قانون الموازنة العامة، تمويل هذه الميليشيات، أو تقديم أي نوع من الدعم لها!

هنا تقفز بعض الأسئلة من قبيل لماذا شمل التصنيف هذه الميليشيات فقط، ولم يتضمن أسماء ميليشيات أخرى أكثر حضورا سياسيا وعسكريا، مثل عصائب أهل الحق، التي أدرجت على قوائم المنظمات الإرهابية العالمية المصنّفة بشكل خاص (SDGT) في بداية العام 2020، وهل ثمة تواصل بين الولايات المتحدة مع بعض الميليشيات كما تسرب مؤخرا؟ أو لماذا هذا التبعيض في تصنيف هذه الميليشيات دون تصنيف الحشد الشعبي بكامل ميليشياته؟

وقد سبق لوزارة الخزانة الأمريكية أن أقرت عقوبات في كانون الثاني 2021 ضد كل من رئيس هيئة الحشد الشعبي بتهمة أنه كان طرفا في خلية أزمة تشكلت في أواخر العام 2019 لإخماد الاحتجاجات بدعم من الحرس الثوري الإيراني، وعلى رئيس أركان الحشد الشعبي بتهمة التورط في أعمال إرهابية، مع ذلك ظلت الولايات المتحدة تتعامل مع الحشد الشعبي بوصف وجوده أمرا واقعا!

إلا أن السؤال الأهم هو: هل نحن أمام موقف أمريكي نهائي بشأن الميليشيات العراقية/ الحشد الشعبي، أم نحن أمام ورقة ضغط تستخدم ضد إيران، وبالتالي قابلة للمساومة في سياق تطورات المفاوضات الأمريكية الإيرانية؟

إن القراءة الدقيقة تؤكد أننا أمام ورقة ضغط قابلة للمساومة، خاصة وأن إيران ليست مستعدة بالمطلق لخسارة العراق بأي ثمن، وأن الفاعلين السياسيين الشيعة لايزالون ينظرون إلى الحشد الشعبي بوصفة الضمانة الوحيدة للإبقاء على الحاكمية الشيعية في العراق، وبالتالي لبقائهم هم أنفسهم في السلطة، لذلك فإن نتائج المفاوضات الأمريكية الإيرانية، هي التي ستحدد مستقبل هذه الميليشيات/ الحشد الشعبي في العراق!

القدس العربي