في نهاية تموز/ يوليو 2021 وقع
العراق والولايات المتحدة الأمريكية على اتفاق يقضي بأنه لن يكون هناك قوات قتالية أمريكية في العراق بحلول 31 ديسمبر/كانون الأول 2021، وإلى أن
القوات الأمريكية العاملة في العراق ستنتقل بالكامل إلى المشورة والتدريب والتعاون الاستخباري.
ولكن هذا لم يحدث، وظلت البيانات تصدر عن عمليات قتالية للقوات الأمريكية في العراق، جوا وبرا، بشكل صريح! ففي كانون الاول/ ديسمبر 2023 أعلن مسؤول عسكري أمريكي لوكالة فرانس برس عن ضربة أمريكية ضد شن «موقع إطلاق مسيرات» في محافظة كركوك!
وفي تموز/ يوليو 2024 قال مسؤول دفاعي أمريكي، لشبكة CNN، إن القوات الأمريكية في العراق نفذت ضربة جوية ضد «مقاتلين» حاولوا إطلاق طائرات بدون طيار في محافظة بابل جنوب بغداد لاستهداف قوات التحالف والجنود الأمريكيين! وفي أب/ أغسطس 2024 أعلنت القوات الأمريكية عن تنفيذ عملية عسكرية مشتركة مع القوات العراقية ضد مقاتلين يشتبه بانتمائهم لداعش لتنظيم في صحراء غرب العراق، وأصيب سبعة جنود أمريكيين في تلك العملية!
وفي أيلول/ سبتمبر 2024 وقع العراق والولايات المتحدة أتفاقية قضت بأن القوات الأمريكية ستغادر قاعدة عين الأسد في الأنبار، ومن قواعد أخرى في بغداد، بحلول أيلول/ سبتمبر 2025، وأن هذه القوات ستبقى في إقليم كردستان لمدة عام إضافي. وأن وجود هذه القوات في أربيل مرتبط بشكل أساسي بوجود القوات الأمريكية في شرق سوريا!
موقف القوى الشيعية من القوات الأمريكية موقف انتهازي بحت، وليس محكوما بأي مبدأ أو إيديولوجيا
سبق لنا أن أوضحنا أن موقف القوى الشيعية من القوات الأمريكية موقف انتهازي بحت، وليس محكوما بأي مبدأ أو إيديولوجيا. وأن هذا الموقف يتعلق بالحاجة الفعلية لتلك القوات، تحديدا القوات الجوية والمعلومات الاستخبارية، وأن فقدانهما سيمنح «داعش» فرصة لإعادة انتشارها من جهة، وبالمصالح الإيرانية في الإقليم في سياق تحولات العلاقات الأمريكية الإيرانية من جهة ثانية. وإلى أن التباين بين مواقف وخطابات الفاعلين السياسيين الشيعة من وجود القوات الأمريكية، إنما يرتبط بعدم وجود قرار إيراني نهائي بخروج القوات الأمريكية من العراق، في الوقت الحالي على الأقل، لأن إيران تدرك تماما أن إخراج العراق للقوات الأمريكية، يعني أن أمريكا ستلزم العراق بجميع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران من دون أي استثناءات، وهي تخشى أيضا أن يستتبع هذا الخروج عقوبات أمريكية على العراق نفسه، وبالتالي ستكون إيران المتضرر الرئيسي منه بسبب اعتمادها على التجارة مع العراق بشكل كبير.
لهذا ما زال من المبكر تماما الحديث عن انسحاب أمريكي حقيقي ونهائي من العراق ككل في أيلول/ سبتمبر 2026 كما ينص على ذلك الاتفاق الموقع بين البلدين.
بالعودة إلى قانون هيئة الحشد الشعبي الجديد، والذي ترفض الولايات المتحدة تشريعه، فإن القراءة التحليلية لمشروع القانون تكشف أنه لا يتضمن أي جديد فيما يتعلق ببنية الحشد الشعبي عما كان عليه القانون السابق الذي تم تشريعه نهاية العام 2016.
ربما باستثناء منحه سلطات أمنية، وليست سلطات عسكرية فقط كما يفترض بوصفه جزءا من القوات المسلحة العراقية، وهي سلطة يمارسها الحشد الشعبي عبر ميليشياته طوال السنوات الماضية كأمر واقع من دون الحاجة إلى إطار قانوني!
ومن ثم فإن الموقف الأمريكي إنما يرتبط بوجود تلك الميليشيات من الأصل، وهي تطالب بدمجها في القوات العسكرية والأمنية، من دون أن تتعلم من درس الأمر رقم 91 الذي أصدرته رئيس سلطة الاحتلال في العام 2004، والمعنون: «تنظيم القوات المسلحة والميليشيات في العراق»، والذي قضى بدمج العناصر المؤهلة، التي كانت ضمن الميليشيات التابعة للأحزاب السياسية، في القوات المسلحة والقوات الأمنية، وقد نتج عن هذا الدمج، قوات عسكرية وأمنية غير مهنية، ساهمت بقوة، ولاتزال، في فشل الدولة العراقية. والأخطر أن بعض القوات العسكرية والأمنية تحولا عمليا الى مجرد واجهات لتلك الميليشيات، على سبيل المثال لا الحصر فإن الشرطة الاتحادية في العراق هي عمليا مجرد واجهة ميليشيا بدر!
في العام 2016 تم تشريع قانون «هيئة الحشد الشعبي» لمجرد إيجاد غطاء قانون للميليشيات الشيعية التي كانت تعمل على الأرض بشكل غير رسمي منذ نهاية العام 2013، والتي عملت تحت مسمى الحشد الشعبي على مدى أكثر من سنتين ونصف من دون أي إطار قانوني. ولم يكن للولايات المتحدة أي موقف معلن تجاه ذلك، مع علمها بأن هذه الميليشيات هي أذرع إيرانية صريحة. كما لم يكن هناك أي اعتراض كردي حينها على ذلك، فيما كانت هناك مقاطعة شبه جماعية لجلسة التصويت على ذلك القانون من النواب السنة، إذ لم يحضر منهم سوى 6 نواب فقط، ولكن لا أحد منهم اعترض على القانون بشكل علني!
أما اليوم فالوضع مختلف تماما، فبسبب الموقف الأمريكي، ثمة اعتراض شبه جماعي سنيا ضد تشريع القانون، وثمة اعتراض صريح من الحزب الديمقراطي الكردستاني على ذلك، وهو ما يعقد إمكانية تمريره إلى حد بعيد.
بالتأكيد لا يمكن الفصل بين هذه التحركات العسكرية الأمريكية الأخيرة في العراق، وبين المتغيرات في الوضع الإقليمي، تحديدا بعد الضربة الإسرائيلية/ الأمريكية لإيران، وفي إطار الحديث عن إمكانية تجدد هذه الضربات مرة أخرى. خاصة بعد الموقف الأمريكي المستحدث ضد الميليشيات العراقية التابعة لإيران، وتهديدها بعقوبات ضد العراق في حال تمريره مشروع القانون الجديد لهيئة الحشد الشعبي. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن ضمان استدامة هذه المواقف في حالة توصل الولايات المتحدة وأوروبا إلى اتفاقية جديدة مع إيران بشأن برنامجها النووي وصواريخها البالستية، على العكس تماما، إذ يمكن لإيران أن تقبل بالتخلي، مضطرة، عن حزب الله في لبنان، الذي أصبح وجوده نفسه على المحك، وربما حتى عن الحوثيين، في مقابل ضمان بقاء نفوذها في العراق، وبقاء ميليشياتها، المسيطر عليها بشكل كامل إيرانيا، مع ضمانات بأن لا تتجاوز عملياتها الحدود العراقية، وضمانات بقبول شيعي جماعي ببقاء القوات الأمريكية في العراق، خاصة في سياق منطق الصفقة الذي تتبناه إدارة ترامب بشكل مفرط!
القدس العربي