عشنا، وعاش آباؤنا، على التمر واللبن، وسنعود إليهما من أجل قضيتنا- الملك فيصل بن عبد العزيز.
في كل خمس وأربعين دقيقة، تُزهق روح طفل بريء في
غزة، لتنضم إلى قائمة الشهداء المتزايدة بلا توقف.
هذه ليست مجرد إحصائية جافة أو رقمًا عابرًا في نشرة أخبار، بل هو إنسان كان يملك هوية وشخصية متفردة، طفل امتلك اسمًا يُنادى به، وضحكة أضاءت قلوب من حوله، ولعبة احتضنها بين يديه، وأحلامًا رسمها في مخيلته، ومستقبلًا واعدًا كان ينتظره... قبل أن يُختطف منه في لحظة.
تعصف بمنطقتنا العربية تحديات جسام: دول تمزقها الصراعات الداخلية، وأخرى لم تتعاف بعد من تداعيات الربيع العربي المُكلفة، ثم بدأ الصهاينة بالتحدث صراحة عن « إسرائيل الكبرى»، وقصف الكيان في اثنين وسبعين ساعة ستة دول عربية، اليمن وفلسطين وسوريا ولبنان، وتونس معتديا على سفينة فلوتيلا البرتغالية بطائرة مسيرة، وقطر.
ورغم هذه الأخطار والهموم الملحة، أرجوكم... امنحوا مأساة غزة المتفاقمة الأولوية التي تستحقها، إنها تستغيث بكم بصوت المكلوم، وتصرخ في وجوهكم بحرقة وألم:
«نحن جزء لا يتجزأ منكم... وأنتم امتداد طبيعي لنا... فلا تتركونا نواجه مصيرنا وحدنا».
ثمة دول نعتبرها حليفة وأخرى نطلق عليها صديقة تقف خلف هذه الإبادة الجماعية وتدعمها، بينما تتظاهر بالصداقة معنا، لكنها في الحقيقة تساهم في قصفنا وتدعم الصهاينة وتعلن صراحة أنها ضد الحقوق الفلسطينية، تسهم في قتل أطفالنا بدم بارد وقلوب متحجرة، يرتكبون جرائمهم البشعة متسترين خلف مصطلحات مضللة ومبررات واهية، مثل «الدفاع عن النفس» أو «الوضع المعقّد».
أما نحن، فاكتفينا بإصدار بيانات الشجب والاستنكار وممارسة بعض الضغوط الخجولة... لكننا للأسف فشلنا حتى هذه اللحظة في وقف شلال الدم المتدفق ثم عربدة الكيان في المنطقة واستباحة دولنا.
القمة العربية الإسلامية التي تنطلق في الدوحة اليوم قد تكون قمة مفصلية في تاريخنا إذا ما قمنا باتخاذ قرارات حاسمة تغير مجرى الأحداث، وإن لم نكن نحن من يملك زمام المبادرة ويقرر مصير شعوبنا ... فمن سيفعل ذلك نيابة عنا؟
لا نريد أن يتحول استهداف الأراضي العربية أو مأساة غزة مجرد بند روتيني باهت على جدول الأعمال في جدول أعمال قممنا، يتلى بلا روح ثم يطوى في أدراج النسيان.
والله إننا لنشعر بهوان وذل يتجاوز كل حدود الوصف، وبإحباط عميق يغوص بنا إلى قاع اليأس والعجز.
أناشدكم بكل ما تحملون من إنسانية وضمير وغضب أن توقفوا عربدة الكيان في المنطقة. لا نريد كلمات تعاطف أو بيانات إدانة واستنكار، بل قرارات حاسمة وإجراءات فورية تضع حدا للصهاينة وتوقف المجزرة في غزة.
وعلى رأس هذه القرارات، التلويح باستخدام سلاح النفط الاستراتيجي الذي أثبت فعاليته سابقًا، والمقاطعة الشاملة لكل منتجات هذا الكيان وداعميه، وإغلاق الحدود البرية والجوية والبحرية أمام كل ما يمت له بصلة، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الغاصب، حتى يدرك العالم جدية موقفنا وصلابة إرادتنا، وآليات لمنع تكرار العملية الصهيونية الجبانة كالتعاون في مجالات الاستخبارات والأمن، وتدفق المساعدات إلى غزة ووقف الإبادة وخطط التهجير، والبحث عن شراكات أمنية جديدة.
هذا العالم الذي نعيش فيه، للأسف الشديد، لا تحكمه المبادئ الأخلاقية ولا القيم السامية
في عام 1973، عندما اتخذ العرب قرارًا شجاعًا بوقف تصدير النفط، شهدنا تحولًا دراماتيكيًا في مواقف دول عظمى كانت بالأمس القريب تقف بصلابة إلى جانب المحتل. تلك التجربة التاريخية أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن المواقف تتغير حين تمس المصالح.
هذا العالم الذي نعيش فيه، للأسف الشديد، لا تحكمه المبادئ الأخلاقية ولا القيم السامية، بل تسيّره موازين القوة والمصالح المتبادلة. من يملك أوراق القوة ويحسن استخدامها، يُسمع صوته ويُحترم موقفه.
كما يجب علينا تكثيف الجهود ودعم التحركات الدبلوماسية في ساحات العدالة الدولية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، لضمان محاكمة مجرمي الحرب ومن أمروا بارتكاب هذه الفظائع، ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه استباحة دماء الأبرياء.
هذه القمة تخيف جميع الأعداء فالفرقاء يجتمعون اليوم على مصلحة وجودية، ورسالة للكيان أن العرب ليسوا وحدهم بل لهم امتداد إسلامي عظيم.
والله إننا نقف اليوم أمام لحظة تاريخية فارقة ستحدد مسار أمتنا لعقود قادمة، لحظة ستختبر فيها ضمائرنا وإرادتنا وقدرتنا على الدفاع عن حقوقنا وكرامتنا.
إن صفحات التاريخ التي تسجل الآن لن تغفر لنا تقاعسنا أو صمتنا، وستحاسب كل من خذل قطر وغزة وأهلها في هذه المحنة الوجودية القاسية!
وما أصدق ما قاله شاعر العربية الأكبر، أبو الطيب المتنبي، حين نظم بيته الخالد الذي يلخص فلسفة العزة والكرامة:
وَوَضْعُ النَّفْسِ في مَوْضِعِ العِزِّ مُوجِبٌ
وَوَضْعُ النَّفْسِ في مَوْضِعِ الذُّلِّ قاتِلُها
الدستور الأردنية