مقالات مختارة

إسرائيل الكبرى.. ورقة نتنياهو في الوقت البديل

جيتي
إسرائيل الكبرى” خرافة يتشبث بها اليهود، تخبو لفترة ثم تعود بقوة، فهي عندهم كالقشة التي يتمسك بها الغريق أملا في النجاة، وفي النهاية تخرّ قواه ويستسلم لقدره ويواجه مصيره.
لا وجود لمصطلح “إسرائيل الكبرى” في التوراة؛ فهذا المصطلح وُضع حديثا بالاستناد إلى ترجمات غير دقيقة للمصطلح التوراتي، فالوارد في سفر التكوين (15: 1-21) هو “أرض إسرائيل الكاملة”، وهي بالعبرية “آرتس يسرائيل هاشلومو”. وهذا ما يذكره سفر التكوين عن هذه الأرض: “في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلا: لِنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات، القينيين والقنزيين والقدمونيين والحثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين”.

بغضّ النظر عما يورده سفر التكوين المشكوك في صحته مثله مثل كل أسفار العهد القديم المطعون فيها سندا ومتنا، والتي تخالف نصوصها الحقائق الجغرافية والتاريخية، فإن ما ورد في سفر التكوين لم يتحقق في أي مرحلة من المراحل التي مر بها اليهود بل تحقق خلاف ذلك، إذ استطاعت الجماعات المناوئة لليهود والمذكورة في هذا السفر الاستيلاء على الأرض وتهجير اليهود وعزلهم إلى أن أصبحوا جماعات ممزقة لا يربطها رابط، وانتهى من اجتمع منهم أو جمعتهم ظروف الحياة إلى العيش في “الغيتو” بكل ما يرتبط به من مظاهر الإذلال التي طالتهم –وما ظلمتهم- في قيتوهات أوروبا، حيث وُضع اليهود تحت قوانين صارمة، وأجبِروا على العيش في أزقة ضيقة تنعدم فيها ظروف العيش ناهيك عن العيش الكريم.

تنفس اليهود الصعداء قليلا في مرحلة التحرر اليهودي في القرن التاسع عشر وألغِيت الغيتوهات وحُطِّمت أسوارها، ولكن سرعان ما عادوا إلى حياة الغيتو الذي فرضه عليهم الرايخ الثالث خلال الحرب العالمية الثانية؛ إذ أسس الألمان ما لا يقل عن ألف غيتو في بولندا والاتحاد السوفييتي، وكل هذا موثَّق في الجداريات المقامة في متحف “ذكرى الهولوكست”.

في الفترة الممتدة من الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) إلى يومنا هذا، لم يتحقق من أرض “إسرائيل الكبرى” المزعومة إلا ما جاد به “آرثر جيمس بلفور” رئيس وزراء بريطانيا آنذاك على اليهود بما سمي “وعد بلفور” وهو التصريح الذي أصدرته الحكومة البريطانية في 2 نوفمبر 1917م معلنة تأييدها إقامةَ “وطن قومي لليهود في فلسطين”، وهو الوعد الذي لم يتحقق رغم مكانة الدولة التي أصدرته إلا في سنة 1948، أو في “عام النكبة” كما يسمى في الأدبيات العربية، الذي استولت فيه العصابات الصهيونية على فلسطين بعد أن هجَّرت الكثير من أهلها وفتحت أبواب الهجرة أمام اليهود الذين جاؤوا من كل حدب وصوب للاستيطان في فلسطين والذين كانوا عبارة عن نثار إثني وكان أغلبهم من اليهود اللائكيين الذين ذابوا في المجتمعات الأوروبية العلمانية ولم يعد لهم أي صلة بالعادات ولا بالعبادات اليهودية.

سمعت وقرأت ما قاله نتنياهو لمحاوره “شارون عال” اليميني والعضو السابق في الكنيست الإسرائيلي على قناة “إي 24” الإسرائيلية، إذ قال إنه يشعر بأنه في “مهمة تاريخية وروحية” وبأنه “متمسكٌ برؤية إسرائيل الكبرى” التي تشمل الأراضي الفلسطينية وتمتد إلى مناطق من الأردن ومصر ولبنان بحسب ما ذكرته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”.

إن أول قراءة لما قاله نتنياهو هي أنه بعد أن طال أمد الحرب في غزة من دون أن يحقق ما أراد، أصابه الهذيان وأصبح يهرف بما لا يعرف لإسكات الأصوات المناوئة وللّعب على وتر الدين لاستعطاف الغاضبين الذين يجوبون شوارع تل أبيب بعد أن يئسوا من وعوده وتأكدوا من أنه يقود إسرائيل والشعب اليهودي إلى الهاوية. “إسرائيل الكبرى” حيلة جديدة لجأ إليها نتنياهو ليمدّ في عمر حكومته التي تطالها الانتقادات من كل جانب والتي تترنح –حسب استطلاعات الرأي- وآيلة للسقوط في أي لحظة.

عطية بلفور وليس عطية الرب
إنّ إسرائيل كيانٌ مصطنع مختلق أسس -على خلاف كل الكيانات الأخرى- بموجب وعد بلفور وليس بموجب القانون الدولي والاستحقاق التاريخي، كان هذا قبل مائة وثمانية سنين لكن الأمور اليوم تغيرت، فبريطانيا الراهن ليست بريطانيا الأمس، والدليل على ذلك استعدادها كما جاء على لسان رئيس وزرائها “كير ستارمر” للاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر المقبل.

ومما قاله ستارمر بهذا الخصوص: “الشعب الفلسطيني عاش معاناة فظيعة. الآن في غزة بسبب الفشل الكارثي للمساعدات، نرى رُضَّعا يتضوَّرون جوعا وأطفالا لا يستطيعون النهوض، صورٌ ستلازمنا ما حيينا. يجب أن تنتهي المعاناة”.

إن بريطانيا –كما أضاف ستارمر- ملزَمة أخلاقيا وإنسانيا بالتكفير عن خطيئتها التاريخية المتمثلة في وعد بفور، وعلى نتنياهو أن يفهم الرسالة وأن يحضِّر نفسه لصدام مع بريطانيا وأوروبا في حال استمر في عدوانه على غزة والضفة واستمرَّ في ترويع الفلسطينيين وتجويعهم وتمادى في تجاهل النداءات والتحذيرات الدولية. إن الأمر لا يتعلق بدولة صغيرة بل بدولة كبيرة يحسب لها حسابها ولها وزنها وكلمتها في مجلس الأمن وكل منظمات وهيئات المجتمع الدولي. لن يستطيع نتنياهو تجاهل التحذير البريطاني ولن ينفعه استقواؤُه بالولايات المتحدة الأمريكية، فقد تدفعها فكرة أسبقية الأمن القومي الأمريكي على الأمن القومي الإسرائيلي إلى الانضمام إلى الركب الدولي والتخلي عن نتنياهو.
الكيان الصهيوني يواجه لعنة العقد الثامن ويمضي إلى نهايته المحتومة

إسرائيل الكبرى فكرة غامضة
أرض الميعاد فكرة توراتية يكتنفها كثيرٌ من الغموض، وهي فكرة غير قابلة للتصديق والتطبيق على أرض الواقع. جاء في التوراة أن حدود هذه الأرض من نهر النيل بمصر إلى نهر الفرات بالعراق، هذه ادّعاءاتٌ توراتية ملفوفة بكثير من الخيال الذي يروِّجه اليهود اليمينيون على أنه حقيقة تاريخية وهي ليست كذلك بأي شكل من الأشكال. وضع اليهود اليمينيون خريطة لما يسمى “أرض الميعاد” أو “إسرائيل الكبرى” كما هو متداول في بعض الأدبيات الدينية والإعلامية في إسرائيل، ولكنهم عجزوا، وأتحداهم أن يفعلوا ويحوّلوا الخريطة الافتراضية إلى حقيقة قائمة.

إن الكيان الصهيوني يواجه لعنة العقد الثامن ويمضي إلى نهايته المحتومة، وقد تأكدت هذه النهاية في ظل العزلة الدولية غير المسبوقة التي يتعرض لها الكيان. ووفقا لهذا المعطى، فإن أي حديث من نتنياهو أو غيره عن “أرض الميعاد” وعن “إسرائيل الكبرى” الممتدة من النيل إلى الفرات هو خبلٌ ودجل ينافي كل المعطيات ويجافي كل التوقعات. على نتنياهو أن يفكّر في العودة إلى بولندا مسقط رأس أبيه وأصول عائلته، عليه أن يفكر في ذلك مليًّا؛ فالكيان على وشك الزوال وقد بدأ العدّ التنازلي لذلك من خلال الهجرة العكسية لأعداد كبيرة من اليهود من إسرائيل إلى دول أوروبية وخاصة بعد الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي أجهضت ولو بصفة مؤقتة فكرة التمدد والتوسع الإسرائيلي.

الشروق الجزائرية