تشهد قناة
السويس المصرية تراجعا بأكثر من 60 بالمئة في حركة مرور السفن وخسائر مالية بلغت 7 مليارات دولار العام الماضي نتيجة الأوضاع الإقليمية، فيما تقترب
الصين من تنفيذ إحدى أهم خططها التجارية لفتح ممر تجاري بديل نحو أوروبا، في خطوة يرى خبراء أنها ستضر بمكانة الشريان الملاحي المصري.
وتطلق الصين في 20 أيلول/سبتمبر المقبل، خط شحن حاويات منتظم مرورا بالقطب الشمالي، يصل المملكة المتحدة، وألمانيا، وهولندا، وبولندا، برحلة تستغرق 18 يوما، في الوقت الذي يستغرق فيه مرور رحلة بين الصين وألمانيا عبر قناة السويس 28 يوما، ما يجعل المسار الجديد أسرع بنسبة 40 بالمئة، وفق موقع الجمارك الصينية الحكومي.
وعن الخط الملاحي الجديد الذي شهد منذ سنوات شحن للحاويات بين الصين وروسيا، قال موقع "High north news"، النرويجي، إن الشركة الصينية هايجي للشحن تطلق الخدمة الشهر المقبل، لتربط ميناء (نينغبو-تشوشان) بميناء فيليكستو، الأكبر بالمملكة المتحدة، مع رحلات بحرية إلى روتردام بهولندا، وهامبورغ في ألمانيا، وغدانسك ببولندا.
طوال العام وإقبال واسع
تمتد الخطط المعلنة للصين إلى ما بعد فصلي الصيف والخريف بين تموز/يوليو وتشرين الثاني/نوفمبر، لتشمل أيضا الشتاء والربيع بحلول عام 2030، وذلك عبر اعتماد تكنولوجيا تطورها وزارة النقل في بكين لمراقبة الجليد البحري.
وتؤكد الشركة الصينية أن تقليل مدة الرحلة يُمكّن البائعين من تسليم منتجاتهم بشكل أسرع، وخفض تكاليف المخزون، وتسريع دوران رأس المال، مشيرة لإتمام حجز أول رحلة في 2025، وسط استجابة واسعة من منصات التجارة الإلكترونية الصينية والمصنعين.
وتشير بيانات حركة الملاحة في القطب الشمالي إلى احتمال نجاح الممر الجديد، إذ سُجل العام الماضي 17 رحلة بحرية لسفن حاويات، معظمها نفذتها شركة "نيو نيو شيبينغ لاين" الصينية، التي سيّرت 7 رحلات في 2023 و13 رحلة في 2024، نقلت خلالها نحو 20 ألف حاوية.
وتشير التوقعات إلى أن حركة الشحن عبر القطب الشمالي قد تشهد توسعا أكبر العام المقبل، حيث أعلنت كوريا الجنوبية عن خطط مماثلة بالقطب الشمالي، الصيف المقبل.
وبحسب موقع "Arctic Today" الأمريكي المتخصص في شؤون القطب الشمالي، فإن السفن المخصصة لهذا الممر مزودة بتقنيات كسر الجليد وأنظمة ملاحة قطبية مصممة لضمان العبور الآمن عبر الممرات البحرية الشمالية.
هل يقبل الأمريكان بهذا المسار؟
تثير الخطوة الصينية تساؤلات حول احتمال وقوع صدام مع الولايات المتحدة في القطب الشمالي، ومدى سماح واشنطن بمرور بكين بهدوء، خاصة في ظل التنافس المتصاعد بينهما ومع
روسيا على الثروات النفطية والغازية الهائلة في المنطقة. كما يبرز صراع السيطرة على الممرات وطرق التجارة الدولية، إلى جانب المخاوف البيئية وتحديات البنية التحتية والجيوسياسية، التي قد تشكل عوائق أمام نجاح المسار الجديد.
وأشار موقع "Splash247" المتخصص في شؤون الملاحة البحرية إلى أهمية الممر الجديد لكل من الصين وروسيا، موضحا أن الإبحار عبر البحر الشمالي يعكس مستوى التعاون بينهما، لافتا إلى أن تطوير هذا الطريق يمثل أولوية استراتيجية للكرملين، في حين دعمت بكين طموحات موسكو بالاستثمار في مشروع الغاز الطبيعي المسال-2.
في المقابل، ذكر موقع "الشرق مع بلومبيرغ" أن القطب الشمالي قد يشهد صداما بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، موضحا أن المنطقة تشهد تنافسا متناميا مع ذوبان الجليد وظهور ثروات نفطية وغازية هائلة تُقدّر بنسب كبيرة من الموارد العالمية.
وبيّن الموقع أن روسيا تعمل على تعزيز وجودها العسكري في القطب الشمالي، بينما تتحرك الولايات المتحدة وحلف الناتو لتأمين نفوذهم هناك، في حين تنخرط الصين عبر مشروع "طريق الحرير القطبي"، وهو ما يزيد من المخاوف من انزلاق المنطقة إلى صراع دولي مفتوح.
"ممر بايدن".. وأزمة القناة
وإلى جانب المشروع الصيني في القطب الشمالي، يبرز مشروع "ممر بايدن" الذي يجمع بين مسارات بحرية وبرية، انطلاقا بحريا من الهند إلى الإمارات، ثم برا عبر السعودية والأردن وصولا إلى إسرائيل، قبل أن يستكمل بحرا نحو دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يضع صانع القرار المصري أمام تحديات حقيقية في مواجهة هذه المشاريع المنافسة لقناة السويس، فضلا عن تداعيات الأزمة الإقليمية الراهنة.
وظهر "ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا الاقتصادي" في 9 أيلول/سبتمبر 2023، ويهدف إلى ربط آسيا بأوروبا عبر شبكة من السكك الحديدية والموانئ. ويُنظر إليه كمبادرة أمريكية بديلة لمشروع "الحزام والطريق" الصيني، لكنه في الوقت نفسه يمثل ممرا منافسا محتملا لقناة السويس، خصوصا في تجارة السلع والمنتجات عالية القيمة بين الهند وأوروبا، نظرا لاختصاره زمن الرحلة بشكل ملحوظ.
ويتزامن التحرك الصيني عبر بحر الشمال، وظهور مشروع "ممر بايدن"، مع ما تمر به قناة السويس من تراجع في حركة المرو، والدخل، تأثرا بالتوترات الجيوسياسية بالبحر الأحمر.
ومنذ 7 تشرين الثاني/ أكتوبر 2023، أثرت حرب الإبادة الدموية الإسرائيلية على قناة السويس، خاصة مع دعم جماعة الحوثي في اليمن المقاومة الفلسطينية بمنع السفن الإسرائيلية العابرة لمضيق باب المندب، ما أدى لتراجع ملحوظ لحركة المرور وإيرادات القناة مقارنة بالعام السابق.
وانخفض عدد السفن المارة بالقناة لأقل من 15 ألف سفينة بإيرادات حوالي 6.5 مليار دولار في 2024، بينما سجل عدد السفن العابرة 25 ألف سفينة في 2023، بإيرادات حوالي 10.25 مليار دولار.
وبعيدا عن الدخل فإن قناة السويس التي حفرها المصريون بين 25 نيسان/ أبريل 1859، و16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1869، ترتبط بالعقل الجمعي المصري، بأحداث مؤلمة حيث توفي بها 120 ألف فلاح نتيجة للجوع والأوبئة والمعاملة السيئة، ثم احتلال إنجلترا لمصر عام 1882، وحروب أعوام 1956، و1967، و1973، بمواجهة إسرائيل.
تضخيم الأهمية والإيراد
وعن خطورة مشروع القطب الشمالي الصيني وخطط الإمارات وإسرائيل وأمريكا على مستقبل قناة السويس، والذي يجب على صانع القرار المصري لإنقاذ ما تبقى من أهمية للقناة، تحدث إلى "عربي21"، الخبير في الإدارة الإستراتيجية وإدارة الأزمات الدكتور مراد علي.
يرى علي، "أننا نقوم بعملية تضخيم لتقدير أهمية دخل قناة السويس بالنسبة لمصر، لأنه بالأيام العادية وبأحسن الأحوال وصل 10.25 مليار دولار في 2023، وبحسابه مقابل إجمالي الناتج القومي البالغ العام المالي (2023-2024) حوالي 400 مليار دولار، يعد مبلغا قليلا لا يتعدى 2.5 بالمئة فقط".
وأضاف: "صحيح أن قناة السويس مصدر هام لمصر من العملة الصعبة ولكن مهما زاد دخل القناة ومهما قل، كما حدث مؤخرا في ظل التوترات الإقليمية الحالية فإن قناة السويس ليست المنقذ للاقتصاد المصري".
وأكد أنه "لو أن متخذ القرار في مصر اهتم بالتعليم، والتكنولوجيا، والتصنيع، والزراعة، من السهل جدا أن يزيد الناتج القومي المصري أضعاف الحالي، دون النظر لدخل قناة السويس".
وتابع: "لو زادت الصادرات، ورُفعت سيطرة الجيش عن الاقتصاد، وساعدت الدولة الاستثمار المحلي والأجنبي لكي يأتي لمصر ويستثمر أمواله ويبني مصانعه ويطور عمله؛ ولا يكون لديه مخاوف، فمن السهل تعويض دخل القناة لو افترضنا أنه يقل ووصل حتى فقط 5 مليارات دولار ".
العالم يتطور ونحن نتفرج
ولفت الخبير المصري، إلى أن "العالم يتغير ويتطور ولابد لبلادنا أن تتطور، ومن حق الصين البحث عن ممراتها"، موضحا أنه "مع انتشار التكنولوجيا سيكون هناك تغيرات بالمسارت البحرية، ومع أيضا ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير الظروف المناخية واختلاف وضع القطب الشمالي"، مبينا أن "كل هذه ظروف تتغير حولنا والمشكلة أننا نتفرج ونصرخ بأن دخل القناة يتضاءل وتنتظر أن يزيد".
وذهب علي، للقول إن "قناة السويس حتى الآن مجرد ممر، وكانت هناك عام 2012، خطة لتحويلها من مجرد معبر مائي إلى خط لتوطين الصناعة واللوجستيات كان مفترضا أن يتفوق على دخل ميناء (جبل علي) بالإمارات الذي يفوق دخله قناة السويس بكثير، لوجود بنية تحتية وتشريعية وقانونية جلبت الاستثمار".
ووفقا للنتائج المالية لمجموعة "موانئ دبي" العالمية، التي تُدير ميناء جبل علي، وصلت إيرادات المجموعة 18.2 مليار دولار عام 2024، قام جبل علي بمفرده بمناولة 13.5 مليون حاوية خلال العام، بينما كان أكبر معدل تاريخي لمرور السفن بقناة السويس بالعام المالي (2021-2022)، بـ23.869 سفينة.
في نهاية حديثه يرى علي، أنه "على الجانب المصري تعديل خططه، فكل ما يتم عمله بقناة السويس أنها معبر لمرور السفن مقابل الحصول على رسم مرور فقط، ولو قدمنا قيمة مضافة وأوجدنا مجمعات خدمية وصناعية وحولنا منطقة القناة لمثل ما حدث بسنغافورة، عندها لن يكون لديك مخاوف من خط ملاحي آخر منافس".
مسؤولية الدولة ومستقبل القناة
يقلل مراقبون مؤيدون لرئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، من خطورة المشروعات المنافسة للقناة، معتمدين على فكرة القدرة الاستيعابية الضخمة لقناة السويس، التي لا يمكن للممر الجديد أن ينافسها في نقل النفط والغاز، ويعفون الحكومة من المسؤولية مؤكدين أنها قامت بتوسعة القناة، وربط البحر الأحمر بالمتوسط عبر خط قطار كهربائي، وطورت الموانئ.
لكن على الجانب الآخر، يُؤكد خبراء أن المشروعات المنافسة لقناة السويس تمثل تحديا جيوسياسيا أكبر من كونه تهديدا اقتصاديا مباشرا وآنيا للقناة.
وقال الباحث المصري الدكتور خالد فؤاد: "لم تعد القوى الدولية تتنافس فقط على السيطرة على الممرات التقليدية للطاقة والتجارة الدولية ولكن التنافس الحالي انتقل إلى مرحلة تطوير وإنشاء ممرات جديدة تسعى فيها كل من أمريكا والصين إلى خلق واقع جديد ورسم خرائط جديدة للطاقة والتجارة والشحن الدولي".
وأوضح أنه "لذلك يبرز القطب الشمالي كساحة جديدة تتنافس حوله القوى الدولية لأسباب متعددة على رأسها التحكم في ممرات بحرية جديدة إلى جانب احتياطات النفط والغاز الواعدة".
وأكد أن "هذا الواقع الدولي والتنافس المحموم على خلق ممرات جديدة يفرض تحديات على قناة السويس باعتبارها ممر تقليدي للتجارة، وأحد مصادر الدخل القومي المصري، ولا أعتقد أنه في ظل مشاريع الممرات الكثيفة التي تطلقها القوى الدولية والإقليمية أن تأثيرها سيكون محدود على قناة السويس على المدى المتوسط والبعيد، وهذا يستدعي تفكير بعيد المدى لتحديد مستقبل القناة في العقود القادمة".