مقالات مختارة

قنابل بوتين الناسفة لتحالف الغرب

جيتي
بدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الفترة الأخيرة، وكأنه يضع قنابل ناسفة تحت سرير تحالف الغرب الأمريكي الأوروبي، فقد كان انتصار بوتين كاسحا في قمة ألاسكا حتى في لغة الجسد، واستثمر ولع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأداء أدوار تلفزيون الواقع، بينما كان الواقع نفسه من نصيب بوتين، كان كعب الرئيس الروسي أعلى من كعب ترامب، بل ربما أعلى من رأسه الولهان المعجب بذكاء الرئيس الروسي، وبنقلاته المفاجئة على رقعة الشطرنج العالمي، فقد أعاد رسم خريطة السلام المستهدف بعد حرب أوكرانيا بسنواتها الثلاث ونصف السنة إلى اليوم، وأزاح بوتين مطلب وقف إطلاق النار أولا، عن موائد التفاوض، ووضع قاعدة الاتفاق الشامل أولا، قبل الحديث عن وقف النار.

ابتلع ترامب هجمة وحيلة بوتين الجريئة، وراح يعرضها كأستاذ في لقاء مهين مع سبعة من القادة الأوروبيين الكبار، الذين ابتلعوها بدورهم مرغمين، وسلم بها معهم الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي نجا هذه المرة من تكرار إهانة شهيرة، لحقت به في لقاء المكتب البيضاوي أواخر فبراير الماضي، وخلع بزته العسكرية ليرتدي بدلة رسمية سوداء هذه المرة، وعامله ترامب بلطف استدراجي في اللقاء الثنائي، لكن ترامب نقل ولعه بالإهانات هذه المرة إلى القادة الأوروبيين الملتزمين بكامل الأناقة الرسمية، المصطفين أمامه ومن حوله على مقاعد منخفضة، وتركهم ترامب في حالة انتظار مترقبة لنهاية مكالمة مطولة، أجراها ترامب مع بوتين، ولم يعد لضيوفه بشيء محدد يشفي غليل الانتظار، اللهم إلا سعي ترامب عند بوتين لترتيب لقاء مع زيلينسكي، يعقبه لقاء ثلاثي يجمع بوتين وترامب وزيلينسكي.

وبالجملة، بدا بوتين في وضع المرشد الهادي إلى سبيل التفاوض الرشيد، وبكامل شروط روسيا المعلنة في الميدان الأوكراني، فالقاعدة الأصلية في التفاوض، أي تفاوض، هي أنه لا أحد يكسب على موائد الحوار بأبعد مما يصل إليه مدى مدافعه في الحرب، وفي هذه اللحظة من أعنف وأطول حرب استنزاف داخل أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، تبدو روسيا قاب قوسين وأدنى من الحسم العسكري الكامل، وتحقق تقدما عسكريا ظاهرا مطردا في ميدان الصدام، مع 54 دولة بقيادة واشنطن، وتضيف بلدة وبلدتين وثلاث بلدات يوميا في هجومها طويل النفس، الذي تسميه موسكو بالعملية العسكرية الخاصة، ومن دون اضطرار لإعلان حرب وحالة طوارئ عامة تجاوز التعبئة المحدودة المعلنة بنسبة 1% لا غير، بينما يتعافى الاقتصاد الروسي على نحو مذهل، رغم فرض الغرب الأمريكي الأوروبي والعالمي لما يزيد على 24 ألف عقوبة اقتصادية، لم تؤثر جوهريا في الاستعداد العسكري الروسي، ولا في نشاط المجمع الصناعي العسكري الروسي، الذي يزيد إنتاجه السنوي بأربعة أمثال ما ينتجه الغرب كله ما أدى إلى مفارقة ظاهرة في حساب النتائج.

كانت واشنطن عند طلقة بداية الحرب، تسعى علنا لجعل أوكرانيا أفغانستان ثانية للروس، فقد كانت حرب موسكو في أفغانستان من عناصر إنهاك وانحلال الاتحاد السوفييتي السابق، وأراد الغرب تكرار القصة ذاتها مع الاتحاد الروسي في الميدان الأوكراني، وكانت المفاجأة التي دوخت وأنهكت الرهانات الغربية، أن أوكرانيا وحربها تحولت إلى مقبرة وأفغانستان ثانية فعلا، ولكن للأمريكيين وحلف الناتو هذه المرة، فقد هربت واشنطن على نحو ذليل من أفغانستان بعد حرب العشرين سنة، وها هو ترامب يكرر سلوك الهروب ذاته من حرب أوكرانيا، وعلى طريقة قوله إن أوكرانيا ليست حربي، بل حرب الغبي جو بايدن.

وفي طريق هروب المهزوم، راح ترامب يبحث لنفسه عن طريقة أقل إذلالا، وذهب يتخبط في أوهام أعقب بعضها بعضا، على طريقة زعمه في حملته الانتخابية الأخيرة، أنه قادر على إيقاف حرب أوكرانيا في 24 ساعة، لكنه وقع سريعا في مصيدة بوتين، الذي أجرى معه ست مكالمات هاتفية مطولة، أحس معها بصداع مزمن في رأسه الخالي إلا من الشعر البرتقالي، أشعره بأن بوتين يتلاعب به، وراح يعرب مرارا عن ضيقه، وإلى أن هدد بعد المكالمة السادسة الماراثونية، وأعطى مهلة أخيرة للرئيس الروسي، خفضها في ما بعد من خمسين يوما إلى عشرة أيام، وأرسل مبعوثه الخاص المقاول ستيف ويتكوف للقاء بوتين قبل انقضاء المهلة بيومين، وبدت رحلة ويتكوف، وكأنها حبل إنقاذ للرئيس الأمريكي من ورطة تعهداته، وتهديده بفرض عقوبات ورسوم جمركية إضافية عالية على موسكو وشركائها في الصين والهند بالذات، وكان قد مهد للتراجع قبلها، وأعلن أن العقوبات لا تؤثر في اقتصاد الروس، وكان المخرج الذي سهله بوتين، هو عقد لقاء قمة ألاسكا بين الرئيسين الأمريكي والروسي، وبدا عقد اللقاء في ذاته كأنه مقلب ساخر من أوهام عزل روسيا دوليا، ثم بدت مجريات اللقاء، وكأنها عناوين انتصار سياسي وتفاوضي جهير لصالح بوتين.

نجح بوتين أولا في فرض جدول أعمال للتفاوض مع واشنطن، أزال عن المائدة مطالب ترامب بوقف النار، وركز بدلا من ذلك على حصد المكاسب الروسية، والتسليم بأولوية خطوط القتال على الأرض، وباع بوتين القصة للرئيس الأمريكي على أنها عملية تبادل أراضي، بينما كل الأراضي موضوع التبادل تقع داخل حدود أوكرانيا، التي سيطرت روسيا على نحو ربع إجمالي أراضيها شرقا وجنوبا، من شبه جزيرة القرم وميناء سيفاستوبول، إلى مقاطعتي الدونباس لوجانسك ودونيتسك، إضافة لأغلب مساحات مقاطعتي زاباروجيا وخيرسون شرق نهر الدنيبرو، ثم أجرت موسكو اختراقات أمنية عميقة في مقاطعات سومي وخاركيف ودنيبرو بتروفسك.

وبدا أن موسكو تعرض مساحات محدودة جدا من الاختراقات الإضافية، وبشرط الخروج الفوري للقوات الأوكرانية طوعا مما تبقى في يدها غرب مقاطعة دونيتسك، فلا تزال القوات الأوكرانية تحتفظ بمدن كراماتورسك وسلافيانسك وغيرها، ولا يزال أكثر من ربع مساحة دونيتسك في يد الأوكران، والقوات الروسية تتقدم حثيثا للسيطرة على الربع المتبقي، وهو ما يجرب بوتين أن يقتطعه بالتفاوض، ربما لأهمية دونيتسك في قلب منطقة الدونباس، وهي المنطقة الأغنى بمنشآتها الصناعية المتطورة ومناجم معادنها الثمينة النادرة في أوكرانيا كلها، وهو ما يسيل له لعاب ترامب، الذي يسعى لجني فوائد اقتصادية من التعاون الاستثماري مع روسيا، وإن كان بوتين الأذكى يسعى لجنى مزايا أكبر، تنهي سلاسل العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، واسترداد 300 مليار دولار أصولا روسية جمدها الغرب الأمريكي الأوروبي.

وهو ما يبدو أن ترامب يميل للتجاوب معه، وبأمل يبدو كعشم إبليس في الجنة، هو أن يحاول فك صلات العروة الوثقى بين موسكو وبكين، وبين بوتين ورفيقه الرئيس الصيني شي جين بينج، وهو ما لا يقبل به بوتين طبعا، فالرئيس الروسي يرى حرب أوكرانيا من وجهة نظر تاريخية أوسع، ترى في نتائج الحرب قنطرة عبور من عالم أحادي القطبية الأمريكية إلى عالم متعدد الأقطاب، تكون روسيا فيه ـ إلى جوار واشنطن وبكين ـ طرفا ثالثا على خريطة القوى الأعظم عالميا.

وهكذا نقل بوتين حزم التناقضات إلى حجر الغرب كله، وجعل ترامب رسوله الخاص إلى المهمة الكبرى، فعلى ترامب أن يضغط ويقنع زيلينسكى بالتنازل عن الأراضي التي تريدها روسيا، وضمتها رسميا ودستوريا، ثم أن يضغط ترامب ويقنع الحلفاء الأوروبيين بالتنازل نفسه، وبوتين يدرك جيدا سيكولوجيا ترامب، الذي يكره الأوروبيين، ويفرح بإهانتهم وابتزازهم، على نحو ما جرى من إرغامهم على مضاعفة نفقاتهم في موازنة حلف الناتو، وفي فرض قواعد علاقات تجارية مجحفة، تحرم الأوروبيين من المزايا الجمركية السابقة، وتجرهم لاستيراد غاز وبترول وسيارات ومنتجات غذائية أمريكية بكميات أكبر، وعليه ـ أي على ترامب ـ أن يفرض على الأوروبيين شروط الرئيس الروسي لإنهاء حرب أوكرانيا، وبإغواء ترامب بنيل جائزة نوبل للسلام، ومفتاح الجائزة في يد بوتين.

تبقى قصة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، التي لم يمانع فيها بوتين من حيث المبدأ، وإن كان يرفض وجود أي قوات أوروبية على أراضي ما يتبقى من أوكرانيا، بينما لا يبدو ترامب متحمسا للمشاركة فيها، إلا في حدود ضيقة، لا تتصادم مع تعهده بعدم ضم أوكرانيا أبدا إلى حلف الناتو، وقد لا تعبأ روسيا بأحاديث الضمانات كثيرا، وقد سبق لروسيا ذاتها أن قدمت مع واشنطن ولندن ضمانات لأوكرانيا، ووقعت على مذكرة بودابست أواخر عام 1994، ولم يحل ذلك دون التحرك العسكري الروسي عام 2014، ولا دون العودة إلى الحرب الجارية اليوم، وحتى إشعار آخر، قد لا يجيء قريبا .

القدس العربي