مقالات مختارة

ترامب وزمن الصفقات الكبرى

جيتي
يجتمع ترامب مع قادة دول أوروبية كبرى جالسا وراء مكتبه، بعد أن انتظروه على كراسٍ متجاورة خارج المكتب البيضاوي، ولا تتوقف الرسالة المبطنة التي أكدت على الهيمنة الأمريكية عند ذلك، فالرئيس الأمريكي يقطع الاجتماع ليتلقى اتصالا هاتفيا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

أتى اللقاء بعد قمة جمعت الرئيسين الأمريكي والروسي في ولاية ألاسكا على مشارف القطب الشمالي، وهي الولاية التي اشترتها الولايات المتحدة من روسيا القيصرية.

ليكتمل المشهد، ستنطلق خلال أسابيع مفاوضات رفيعة المستوى بين الجانبين الروسي والأوكراني، يمكن أن تصل إلى اجتماع بوتين مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي. الخلاصة، أن الرئيس الأمريكي يتحدث بصراحة وقوة ووضوح مربك، ولا يتردد في وضع خياراته والاحتمالات المترتبة عليها أمام الجميع، والغاية، هي تجاوز الفوضى التي حدثت في أوروبا، بعد مغامرتها في محاولة وضع أوكرانيا حاجزا لتأمينها من روسيا، من خلال وعود الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، كخطوة لاستقبالها في الاتحاد الأوروبي، وبعد سنوات من الحرب، وعلى الرغم من الدعم الأوروبي الذي عطل قدرة الروس على الحسم ميدانيا، تخرج أوروبا مرهقة اقتصاديا وسياسيا بصورة غير مسبوقة منذ عقود من الزمن، ومن غير تحقيق أي من أهدافها.

كل ما يبديه الرئيس الأمريكي من حسم مؤخرا في القضية الأوكرانية لا يقابله السلوك نفسه تجاه الأحداث الجارية في غزة، حيث تحصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الضوء الأخضر من ترامب لإنهاء الحرب على طريقته، فهو لا يريد هذه الحرب واستمرارها الذي يعرقل تصوراته تجاه المنطقة، ولكنه لا يريد في المقابل أن يضعف إسرائيل، أو يحدث شرخا في العلاقة القائمة معها، فهو يحتاج إسرائيل التي تمكنت من تسويق نفسها جزءا كبيرا من استراتيجيته في العالم ككل، من خلال حصولها على موقع منصة الخط التجاري الهندي.

بقيت الصين لسنوات تنتج البضائع الرخيصة التي تغذي رفوف تجارة التجزئة حول العالم، ولم يكن لدى الأمريكيين أدنى مشكلة في ذلك، فالعولمة نقلت التصنيع إلى الدول الأرخص تكلفة على مستوى العمالة، ولكن التوسع الصيني أدى إلى ظهور طبقة وسطى كبيرة للغاية، وذات نهم استهلاكي هي الأخرى، وتطورت مستويات التعليم واستفادت من الزخم السكاني، لتصبح الصين منافسا للولايات المتحدة الأمريكية في الصناعات الثقيلة والتكنولوجية، للدرجة التي جعلتها تتجاوز مرحلة التجميع والتنفيذ إلى الابتكار والإنتاج بصورة مستقلة.

وبعد ذلك، بدأت الشركات المالية الصينية في النمو، وتمكنت مع التوسع في البنية التحتية من استقطاب الاستثمارات وطرح الفرص الكبيرة أمام حركة المال العالمي، للدرجة التي يمكن أن تهدد مع الوقت المركزية الأمريكية، أي مستويات معيشة المواطن الأمريكي المرتبطة أصلا بالقدرة المتصلة على الاقتراض. مع الدخول إلى هذه المرحلة أصبح واضحا أن تقييد الصين ضروري، فالحرب لم تعد على التجارة، ولكن على قيادة الاقتصاد في العالم، على طبق حساء سيخصم من مائدة المواطن الأمريكي ليكون في عشاء الأسرة الصينية، والحقيقة أن الصين والهند بتواضع مستويات المعيشة لفترات طويلة كانا يوفران على العالم موارد متاحة بأسعار رخيصة، أما مع صعود الطبقة الوسطى، خاصة في الصين، فالمعادلة تختلف، ويكتشف العالم أن الصينيين الذين كانوا يموتون بعشرات الملايين في المجاعة، لديهم القدرة اليوم على الوقوف مثل الأمريكيين أو الأوروبيين في المولات التجارية، وتعبئة عربة التسوق بما يريدونه، وهذا الفعل البسيط عند قياسه بعدد سكان الصين، يخلخل معادلة الاستهلاك القائمة في العالم كله.

أثارت هذه الوضعية المخاوف الأمريكية منذ سنوات، ولكن أزمة سلاسل التوريد بعد وباء كوفيد 19، وما تبعها من تفاعلات، وضعتهم أمام ضرورة التحرك لإعادة ضبط الاتجاه، وتفريغ الصعود الصيني في مشروع هندي طموح، وأتت المنطقة في شرق المتوسط لتكون جزءا من تفعيله، ما يدفع لإنهاء حروبها والدفع بتسويات على مبدأ فرض السلام بالقوة.
تقدم إسرائيل نفسها وكيلا للأمريكيين في مشروعين كبيرين

المنطقة لم تكن محظوظة/ ملعونة بموقعها، فيضاف إلى ذلك، الدرع العربي المقابل للدرع النوبي في افريقيا، وثراء المنطقة بالمعادن النادرة اللازمة لصناعة التكنولوجيا، وتريد أمريكا التوسع في السيطرة عليها والحيلولة دون وصول الصين إليها، لتعطيل قدرتها على الإنتاج الواسع في مجال التكنولوجيا، وبعد أن تمكن الأمريكيون من انتزاع اتفاقية مذلة مع الأوكرانيين، وما يبدو أن تفاهما يجمعهم مع الروس، بخصوص القطب الشمالي، تبقى الثروات المعدنية على ضفتي البحر الأحمر هدفا يتقدم مع الوقت إلى الأولويات الأمريكية، ويجب الحصول على تهدئة واسعة في المنطقة.

تقدم إسرائيل نفسها وكيلا للأمريكيين في مشروعين كبيرين، والأمريكيون ليست لديهم الثقة في أن تقوم الدول العربية نفسها بعملية الإدارة والتواصل، لأنها تدرك الإشكاليات العميقة في النماذج الإدارية العربية، ولا ترى أن من الخيارات العقلانية تمكين منطقة توجد فيها الثروة مع الطاقات البشرية من القدرة على الفعل الذاتي، وعلاوة على ذلك، ثقافة ذات بعد توسعي، لأن ذلك يشكل خطرا أوسع مما تمثله الصين المنغلقة على ذاتها ومصالحها.

هذه الوقائع بقيت ذات حضور في الفكر الاستشراقي في الأوساط الأوروبية والأمريكية، وتشكل النظرة الأمريكية التي تجعل الرهان على إسرائيل غير قابل للتفاوض أو المساومة داخل ما هو أبعد من الدولة العميقة، وما يمكن تسميته بنظرة العقل الاستراتيجي الأمريكي، في وعيه الذي تغذيه قدرة المنطقة على إنتاج الأيديولوجيا، القومية والدينية، وفي لا وعيه الذي يعتبرها المنطقة التي استطاعت أن تفرض وجودها في العالم القديم، الذي تشكل أمريكا نسخته الحديثة من غير أن تتخلص من عقده وحساباته بالكامل.

يبدو مشهد القادة الأوروبيين في البيت الأبيض قابلا للتكرار بصورة أو بأخرى مع القيادات العربية، وإن يكن من خبرة ترامب بصورة أكثر أناقة، فهو يعرف أنه يتعامل مع مجموعة من الموظفين الأوروبيين في النهاية، ويريد تقليم الأظافر الأوروبية، وفي الحالة العربية، فالوصول إلى النتيجة يمكن أن يكون أقل حدية من ناحية الصورة، ولكنه أبعد كثيرا في أثره من حيث المضمون، الذي يمكن أن يترتب عليه واقع جديد يجعل المنطقة تحت السيطرة المدروسة لمصلحة التدفق العالمي، في زمن الصفقات الكبرى التي لا يمكن التهاون في شروطها، فلم يعد لكلمات مثل الصداقة أو التحالف، أي معنى في مفهوم السلام بالقوة، فكل ما سيقدم هو الدور والمقابل في إعادة هندسة العالم في عصر التكنولوجيا الفائقة.

كيف للجياع في غزة، والمهددين بالموت العشوائي من غير مقدمات أو إشارات مسبقة، أن يستوعبوا أن ما يحدث هو عملية تمهيد لمشروع عالمي كبير، لن يكونوا موجودين من أجل أن يحصلوا ولو على الفتات من نتائجه، وإلى متى يقدم الإسرائيليون أنفسهم في صورة الوصاية على المنطقة، من خلال ديمقراطيتهم المعيبة والعنصرية في جوهرها، وكأن الكتلة العربية ميؤوس من إعادة تقديمها كشريك حقيقي على مسرح العالم.

القدس العربي