أثار تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية (
بي بي سي) جدلاً واسعاً، بعد أن خلصت مراجعة داخلية إلى أن وثائقيا أنتجته الهيئة بالتعاون مع شركة إنتاج مستقلة حول الأطفال في قطاع
غزة، خالف معايير الدقة التحريرية، بسبب عدم الإفصاح عن خلفية الراوي الطفل عبد الله اليازوري، الذي تبين لاحقاً أنه نجل أيمن اليازوري، نائب وزير الزراعة السابق في الحكومة التي كانت تدير قطاع غزة المحاصر.
الوثائقي الذي حمل عنوان "غزة: كيف تنجو في منطقة حرب"، وسُحب من منصة "آيبلاير" التابعة لـ (بي بي سي) في شباط/ فبراير الماضي، وُضع تحت المجهر بعد حملة ضغوط مكثفة شنتها منظمات ومؤسسات إعلامية موالية لإسرائيل، وسط اتهامات للهيئة بتقديم "منبر دعائي لحماس".
وبحسب تقرير المراجعة الذي قاده مدير الشكاوى والمراجعات التحريرية في الهيئة، بيتر جونستون، فإن شركة الإنتاج المستقلة "هويو فيلمز" تتحمل المسؤولية الأكبر، بعدم إبلاغ "بي بي سي" بمعلومة أساسية تتعلق بهوية والد الراوي.
وخلص التقرير إلى أن ثلاثة من موظفي الشركة كانوا على علم بالمسألة، لكنهم لم ينقلوها للهيئة، ما اعتُبر "تقصيراً جسيماً".
وفيما لم يجد التقرير أي خرق لمبادئ الحياد التحريري أو دليلا على تدخل "مصالح خارجية"، إلا أنه شدد على أن "المعلومات المتعلقة بهوية والد الطفل كانت حساسة وكان يجب عرضها على الجمهور، بغض النظر عن تقييم أهمية منصبه".
لكن الجدل لم يتوقف عند هذا الحد، إذ تلقت "بي بي سي" انتقادات حادة من وسائل إعلام بريطانية يمينية، على غرار "ديلي تلغراف" و"ديلي ميل"، التي وصفت الوثائقي بأنه "أداة دعائية لحماس"، فيما قدمت جماعة "العمال ضد معاداة السامية" شكوى رسمية ضد الهيئة.
من جهته، قال المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني إن "بي بي سي اعترفت بإخفاقات جسيمة، ونتوقع منها اتخاذ الإجراءات المناسبة"، في حين رأت وزيرة الثقافة، ليزا ناندي، أن الثقة في الهيئة "تضررت مؤخرا"، لكنها أشارت إلى "خطوات تصحيحية جارية".
جلسة برلمانية مرتقبة وضغط رقابي
استدعت لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان البريطاني، برئاسة كارولين دينيناج، المدير العام للهيئة تيم ديفي ورئيس المجلس سمير شاه للمثول أمام البرلمان في أيلول/ سبتمبر المقبل، معتبرة أن ما حدث "يشكل ضررا بالغا لمصداقية BBC كمؤسسة عامة".
ورغم الحملة ضد الوثائقي، تلقت "بي بي سي" ضغوطاً معاكسة من أكثر من 600 شخصية من عالم الثقافة والإعلام والفن، وقعوا على رسالة مفتوحة في أيار/ مايو الماضي، طالبوا فيها بإعادة بث الوثائقي، ونددوا بـ"قمع سياسي"، و"ازدواجية في المعايير التحريرية"، واعتبروا أن سحب الوثائقي "يكرس سياسة إسكات الأصوات الفلسطينية"، في ظل مجازر مستمرة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين في قطاع غزة.
"بي بي سي" تمنع فيلماً آخر.. والقناة الرابعة تتدخل
وفي مؤشر جديد على التوتر داخل غرف التحرير، أفادت تقارير بأن هيئة الإذاعة البريطانية منعت عرض وثائقي آخر بعنوان "أطباء تحت الهجوم"، يتناول استهداف الطواقم الطبية في غزة، رغم اكتمال إنتاجه، ما دفع القناة الرابعة البريطانية إلى تولي بثه، في خطوة اعتبرها مراقبون ضربة موجعة لصورة “بي بي سي” كمؤسسة تُفترض بها الاستقلالية.
وفي تعليق لافت، قال كريس دويل، مدير مجلس التفاهم البريطاني-العربي، إن ما جرى "يعكس رضوخاً غير مبرر للضغوط الإسرائيلية"، ووصف سحب الوثائقي بأنه "انحياز صريح ضد الرواية الفلسطينية"، مضيفاً أن الوثائقي تضمن انتقادات لحماس من فلسطينيين، لكنه "قُوبل بحملة تحريض لأنه ببساطة أظهر الجانب الإنساني من معاناة الأطفال في غزة".
الطفل عبد الله: "نفطر على الحزن"
وفي ظل كل هذا الجدل، لا يزال الطفل عبد الله اليازوري، راوي الوثائقي، ينشر فيديوهات على "إنستغرام" توثق الحياة تحت القصف في غزة. وفي فيديو نُشر خلال عيد الفطر قال: "في هذا العيد، لا نفطر على ولائم، بل على حزن. منازلنا مدمرة، وعائلاتنا ممزقة – ومع ذلك، ما زلنا نجتمع، وما زال لدينا أمل."
وتأتي هذه العاصفة الإعلامية والسياسية في وقت يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي، بدعم أمريكي، حرباً على غزة أدت إلى مقتل وجرح أكثر من 197 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وسط دمار شامل ومجاعة وأزمات إنسانية خانقة.
وفي المقابل، يتصاعد القلق في أوساط الصحافة البريطانية من أن تفقد مؤسسات إعلامية مثل "بي بي سي" دورها المهني، تحت وطأة الضغط السياسي والابتزاز الإعلامي.