قضايا وآراء

الأمة المهدورة

"أراد الله تعالى لهذه الأمة أن تكون "خير أمة أُخرجت للناس"، لا باعتبار هويتها اللغوية أو الجغرافية، وإنما باعتبار ما هو منتظَرٌ منها"- جيتي
كتب د. مصطفى حجازي، عالم نفس لبناني، كتابا بعنوان "الإنسان المهدور"، وهو دراسة تحليلية نفسية اجتماعية للإنسان العربي الذي اعتبره ضحية "منظومة المحرمات"، ويقصد محرماتٍ قانونية أو دينية تمنع تناول عديد المباحث بسبب خوف الأنظة العربية مما قد يترتب عن تناول تلك المسائل من مخاطر عليها.

انطلقت من عنوان كتاب مصطفي حجازي لأطرح كارثة "الهَدْر" على نطاق أوسع ومن زاوية أخرى، أطرح "الهَدْر" على مستوى الأمة و"الهَدر" بما هو تفريط في إمكانات متوفرة فعلا وليس فقط متوقّعة.

ليس ثمة من أمة تتوفر على عوامل القوة وعلى معطيات المناعة وعلى حظوظ التفوق كما تتوفر عليه الأمة العربية والإسلامية، وفي ذات الوقت ليس ثمة من أمة مهدورة كما هذه الأمة، إذ فرطت في تلك الامكانات وتلك الحظوظ إما عمدا ومكرا من قِبَل فاعلين في الداخل والخارج، وإما جهلا وسذاجة لدى أفرادها وخاصة لدى "نخبها" ممن يُنظَرُ إليهم على أنهم صُنّاع رأي.

ليس ثمة من أمة تتوفر على عوامل القوة وعلى معطيات المناعة وعلى حظوظ التفوق كما تتوفر عليه الأمة العربية والإسلامية، وفي ذات الوقت ليس ثمة من أمة مهدورة كما هذه الأمة، إذ فرطت في تلك الامكانات وتلك الحظوظ

لن أتوقف عند الإمكانات المادية بما هي ثروات باطنية واتساعٌ جغرافيٌّ وتعدادٌ بشريٌّ، فالحضارات لا تصنعها الوفرةُ -وحدها- وإنما تصنعها الجدوى -بالأساس- بل سأتوقف عند "هَدْرٍ" لما أعتبره أهم من تلك الثروات المادية، إنها "الطاقات المعنوية" التي هي وقودُ الحركة وروح الحضارة وخمائر الثورات الإنسانية الكبرى، وهي كيمياء التضامن الإنساني.

لقد أراد الله تعالى لهذه الأمة أن تكون "خير أمة أُخرجت للناس"، لا باعتبار هويتها اللغوية أو الجغرافية، وإنما باعتبار ما هو منتظَرٌ منها فعلُه من "أمر بالمعروف" و"نهي عن المنكر" و"إيمان بالله"، هذه الخصال الثلاث ليست مُعطى مجانيّا، وإنما هي مُكتسَباتٌ ينتظر تحصيلها بعد دُربة على التفكير وعلى الوعي وعلى مغالبة الأهواء وعلى التعلق بالأهداف الكبرى، حيث يكون الإنسان المُستَخلفُ، الذي حُمِّلَ أمانة استنزال القيم الإلهية المطلقة من عوالم المُثُل والكمالات إلى عالم الناس، فتكون العدالة والحرية والمساواة ويكون العلم والتقدم وتكون العزة والهيبةُ.

الأمم المتفوقة هي الأمم التي تنتصر لقيمها ولفلسفتها في الحياة، فلا تكون مصدرا للأذى ولا منتجا للخوف، وإنما تكون مصدرا للخير وللأمان وللسلم؛ لا تعتدي ولا يُعتَدى عليها.

هل يُمكن أن يُستَمع إلى أمة ضعيفة حين تريد الدعوة إلى قيم التسامح والتواضع وحين تنهى عن الظلم والفساد؟ هل يُمكن لأمة عاجزة على حماية حدودها وعلى استغلال ثرواتها وعلى توفير غذائها وحاجاتها الضرورية؛ أن تكون مثالا يُقتَدى به في عالم تتنافس فيه الدول والأمم على مراتب التفوق وعلى الريادة الحضارية؟

ما يجعلنا متفائلين دائما، أن "الطاقة المعنوية" المهدورة ليست ثروة مادية كمية يعسرُ ردّها إذا هُدِرت، إنها ثروة مُودَعةٌ في الفطرة التي فطر الخالق الناس عليها، وهي مكنوزة في قُرآن كريم لا تبرد معانيه ولا تنطفئ أنوارُه ولا يجف معينهُ، وستظل فرص الاستئناف متاحة ينتدب التاريخ لها صابرين ذوي حظ عظيم

لقد هوت هذه الأمة بنفسها من مكان عال ومن مكانة عليّة إلى هاوية سحيقة؛ حين تخلت عن شرف أراده الله لها "آمرة بالمعروف" و"ناهية عن المنكر" و"مؤمنة بالله"، تنتصر للحق وتدافع عن الحقيقة وتذود عن كرامتها وتحيا عزّتها، وتعمل بقاعدة "التعارف" بين الأمم والشعوب من أجل حضارة إنسانية تليق بإنسان كرّمه الخالق وأراده سيّدا على الأرض؛ لا يَظلم ولا يُظلمُ، تَزينُه ثقافة إنسانية راقية وتحرسُه قوة عادلة لها هيبتُها ومهابتُها؛ لا يتجرّؤ عليها منحرفو نفايات الحضارة وأجلاف فجوات المدنية.

لقد أهدرت هذه الأمة أجمل ما كان ممكنا تحقّقُه وأنقى ما هو مخبوءٌ فيها، لقد انشغلت باللامعنى وباللغو وبالجدل وبتوليد الخلافات وإحياء الصراعات وتقليب الموتى، حتى صارت بيئة مناسبة للاختراق ولتنشيط الفتن، فلا تنمو فيها معارف وفلسفات وعلوم وقيم وإنما تستعر فيها الأحقاد والكراهية والأنانية؛ حتى صار حكامها ونخبها يكرهون أن تصبح نعمُ الله عامة، بل يريدون ذهابها حتى لا ينعم بها معهم غيرُهم ممن يختلفون معهم في دين أو في فكرة أو حتى في ذائقة، فلا يترددون في إفساد كل ساعة فرَج ولحظة فرح وموسم سعادة ممكنة لعموم الناس؛ تُرفع عنهم الأغلالُ وتتسع الحرية لتنوعهم واختلافهم وتعددهم وتنمو الثروات، فلا يكون أشقياء ولا محرومون، ولا تكون تبعية لأمم أخرى ولا تكون مذلةٌ في أمةٌ أرادها الإسلام "خير أمة" وأراد لها "العزة" والعُلوّ بقوله: "ولا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتُمُ الأعلوْنَ إن كنتم مؤمنين" (آل عمران: 139).

ولكن، ما يجعلنا متفائلين دائما، أن "الطاقة المعنوية" المهدورة ليست ثروة مادية كمية يعسرُ ردّها إذا هُدِرت، إنها ثروة مُودَعةٌ في الفطرة التي فطر الخالق الناس عليها، وهي مكنوزة في قُرآن كريم لا تبرد معانيه ولا تنطفئ أنوارُه ولا يجف معينهُ، وستظل فرص الاستئناف متاحة ينتدب التاريخ لها صابرين ذوي حظ عظيم :"وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيم" (فُصِّلت: 35).

x.com/bahriarfaoui1