قضايا وآراء

الأوقاف في مصر بين التعمير والتجريف

"ألغت التعديلات الوقف الأهلي، وصادرت أغلب الأوقاف الخيرية ومنحتها بغير حق للهيئة العامة للأوقاف، والإصلاح الزراعي، والمحليات"- الأناضول
في اجتماع ضم رئيس مجلس الوزراء المصري الدكتور مصطفي مدبولي ووزير الأوقاف الدكتور أسامة الأزهري، بحضور رئيس مجلس إدارة هيئة الأوقاف المصرية خالد الطيب محمد الطيب، تابع رئيس الوزراء موقف إدارة أملاك هيئة الأوقاف وسبل تعظيم استغلالها، موجها بضرورة إجراء حصرٍ شامل ومُميكن لجميع أملاك الهيئة، على أن يشمل مختلف الأراضي والمباني السكنية والتجارية وغيرها، مؤكدا أن أي مشروع تنفذه الهيئة بالشراكة مع القطاع الخاص سيحظى بالدعم الكامل من جانب الحكومة، وذلك في إطار تعزيز هذه الشراكات وتحقيق الاستثمار الأمثل لأملاك الهيئة. كما وجّه رئيس الوزراء أيضا بضرورة حصر الفرص الاستثمارية المتاحة من قبل هيئة الأوقاف ودراستها، تمهيدا لطرحها على القطاع الخاص من أجل الشراكة، بهدف تعزيز كفاءة الإدارة والتشغيل لمختلف هذه الفرص.

وفي تقارير سابقة عن الأوقاف في مصر ذكرت أن حجمها يبلغ114 ألف قطعة وقف، بأصول تقدر بـ180 مليار جنيه. ويقدر حجم الأرض الزراعية بنصف مليون فدان زراعي وحدائق، تدير هيئة الإصلاح الزراعي 420 ألف فدان منها. كما أن الأوقاف مالكة ومشاركة في 20 شركة وبنكا، فضلا عن ملكيتها لربع ثروة مصر في العقارات. ويصل حجم الاستثمارات الكلية للأوقاف إلى 70 مليار جنيه، ويصل حجم الاستثمار السنوي فيها إلى مليار و700 مليون جنيه. ويصل ريع الأوقاف إلى 800 مليون جنيه. ويصرف 75 في المئة من عائد الوقف على الدعوة والمساجد، 15 في المئة على مرتبات موظفي الهيئة، و10 في المئة يضاف على رأس المال لرفع قيمته سنويا.

اتجاه رئيس الوزراء المصري لهذا التوجه مع وزير الأوقاف تحت غطاء عودة الكتاتيب مع فتح المجال للقطاع الخاص لاستثمار أموال الأوقاف؛ هو أمر تحوطه الريبة في تلك الظروف وسياسة الدولة في بيع أصولها لتسديد ديونها، فلا أصولا أبقت ولا ديونا سددت في ظل سياسة ترقيع الديون

ولا يشك عاقل ومنصف في أن الوقف باعتباره تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة، أي جعل عائد الأصل الموقوف في سبيل الله، كان عامل القوة الخيرية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية، وهو سر من أسرار قوة الدولة الإسلامية على طول تاريخها، لذا سعى الاستعمار منذ وطأت قدماه بلاد المسلمين إلى النيل من الوقف ونهب موارده، ومن قبله وبعده كان هذا السلوك هو سلوك الظالمين من أهل الحكم الذين كان منهجهم تأميم الأوقاف، لمنع الصوت الحر أن يتكلم، وتحويل العلماء إلى موظفين عند الدولة تتعامل معهم بسياسة العصا أحيانا والجزرة أحيانا أخرى.

والنَيل من الأوقاف في مصر بصفة خاصة ليس جديدا، بل هو له منظور تاريخي، ففي ظل حكم محمد علي وفي سياق التنظيمات الإدارية والمالية والاجتماعية التي أدخلها على دولته، وجد أن نحو ثلث مساحة الأراضي الزراعية تمثل وقفا، فعمد إلى تغيير نظام الأوقاف وأدمج أملاكها وأموالها في مالية الدولة، وتعهد بالإنفاق على المسـاجد والجهات التي كانت ستفيد من أموال الوقف، غير أن سياسته لم تنجح في إلغاء الوقف والسيطرة عليه، وذلك لشدة رغبة الناس فيه.

وبعد ذلك لم تسلم قوانين الأوقاف من التغيير منذ صدور أول قانون للوقف وهو القانون رقم 48 لسنة 1946م، فقد تلاحقت التغييرات بموجب قوانين وقرارات جمهورية وقرارات وزارية حتى بلغت بضعا وثلاثين تعديلا، مما جعل من القانون الأصلي كأنه لم يكن. وأقل ما وصفت به هذه القوانين والقرارات بأنها مجحفة وغير دستورية، وقد ألغت هذه التعديلات الوقف الأهلي، وصادرت أغلب الأوقاف الخيرية ومنحتها بغير حق للهيئة العامة للأوقاف، والإصلاح الزراعي، والمحليات، وجعلت لوزارة الأوقاف نظارة الوقف ما لم يشترط الواقف النظارة لنفسه حال حياته فقط. وأجازت لوزارة الأوقاف أن تغير من شروط الواقف بالرغم مما هو معروف من اعتبار شرط الواقف -طالما لم يخالف الشرع- كشرط الشارع، واختصاصها دون المحكمة المختصة في استبدال الوقف إذا تخرب المال الموقوف ولم تتيسر عمارته.

إن اتجاه رئيس الوزراء المصري لهذا التوجه مع وزير الأوقاف تحت غطاء عودة الكتاتيب مع فتح المجال للقطاع الخاص لاستثمار أموال الأوقاف؛ هو أمر تحوطه الريبة في تلك الظروف وسياسة الدولة في بيع أصولها لتسديد ديونها، فلا أصولا أبقت ولا ديونا سددت في ظل سياسة ترقيع الديون، وكما يبدو أن الحكومة تفتش في دفاترها القديمة فلم تجد سوى الأوقاف للنَيل منها.

لا  ننكر أهمية إدارة الأوقاف بطريقة نموذجية تلائم العصر، وليس بطريقة النهب والتجريف والضياع كما هو عليه الحال منذ انقلاب 1952م

إننا لا ننكر أهمية إدارة الأوقاف بطريقة نموذجية تلائم العصر، وليس بطريقة النهب والتجريف والضياع كما هو عليه الحال منذ انقلاب 1952م، وقد قمنا بدراسة علمية كاملة نشرتها مجلة أوقاف في الكويت عام 2005م، فيها تصور للتمويل بالوقف قابل للتطبيق بصورة عملية بما يتيح تنميته وزيادة القيمة المضافة وتنمية المجتمع من حوله.

إن هذا السلوك الحكومي نحو الأوقاف يحتاج وقفات ووقفات، فظاهره قد يكون شيئا وباطنه قد يكون شيئا آخر، إنه اتجاه يريد للوقف أن يكون في خدمة القطاع الخاص، وليس العكس، كما أنه أي قطاع خاص هذا المقصود؟! هل هو كل قطاع خاص، أم قطاع خاص أصحاب المصالح وسفاح السلطة والثروة؟ ثم لماذا هذا الاتجاه نحو الوقف الإسلامي وترك الوقف المسيحي دون أي تتجه النظرة إليه؟ كما أن هذا السلوك لا يخفي عنه لفت نظر صندوق الخراب وهو صندوق النقد الدولي إلى دعم دور القطاع الخاص، بعد غل يد الحكومة عن النظر للشركات المدنية للجيش وخصخصتها.

إن الأوقاف هي ملك لله ولا يجوز النيل منها أو فتح الباب لنهبها، وهي تعاني من النهب أصلا، كما لا يجوز استثمارها إلا بما يحفظ حقوقها الشرعية والاقتصادية، ويعود عليها بالخير من القوي الأمين الحفيظ العليم. ومصر في أشد الحاجة لمنظومة متكاملة لحفظ مال الأوقاف وتنميتها بشفافية وإفصاح وكفاءة اقتصادية واجتماعية، وهي موجودة بين أيدينا، ولكن لقد أسمعت لو ناديت حيا ولا حياة لمن تنادي.

x.com/drdawaba