مقالات مختارة

لعبة الكراسي

إسماعيل الشريف
جيتي
جيتي
المبدأ الأساسي للقانون الإنساني الدولي هو حماية المدنيين. علينا التمسّك بالمبادئ في أوكرانيا كما في غزة، دون معايير مزدوجة- أنطونيو غوتيريش (الأمين العام للأمم المتحدة).

عزيزي القارئ، لعبة الكراسي من الألعاب الجماعية التي تحتفظ الذاكرة بها منذ الطفولة. قواعدها بسيطة ومألوفة: تُرتَّب الكراسي في دائرة بعدد يقلّ بواحد عن عدد المشاركين، ثم تنطلق الموسيقى فيدور اللاعبون حولها. وحين تصمت الموسيقى فجأة، يتسابق الجميع للظفر بمقعد، ليجد أحدهم حتمًا نفسه واقفًا دون كرسي، فيُقصى من الجولة. تتكرر هذه العملية مع إزالة كرسي في كل مرة، حتى تبلغ اللعبة ذروتها: لاعبان يتنافسان على كرسي واحد، والفائز من يتمكن من الجلوس عليه أولًا.

قبل أيام، وأثناء مطالعتي لأحد الكتب، لفت انتباهي أنّ المؤلف أشار إلى هذه اللعبة بتسمية مغايرة: «الرحلة إلى القدس». استوقفني هذا الاسم طويلًا: أيّ صلة تجمع بين لعبة أطفال بسيطة ومدينة بثقل القدس التاريخي والرمزي؟

انطلقتُ في رحلة بحث عن أصل هذه التسمية، لأجد أنّ المصادر المتاحة لا تعطي تفسيرًا قاطعًا، غير أنّ ثمة نظريات متعددة تحاول تأصيل هذه العلاقة، وأغلبها يربط التسمية بموجات الهجرة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين، لا سيما في حقبة الانتداب البريطاني وما سبق قيام الكيان الصهيوني عام 1948.

تطرح إحدى النظريات -وهي الأكثر تداولًا- تصوّرًا رمزيًّا للعبة: اللاعبون يمثّلون مهاجرين يهود، والكراسي تمثّل المقاعد الشحيحة على متن السفن المبحرة نحو فلسطين. من يحظَ بكرسي يصعد إلى السفينة ويبلغ وجهته، ومن يبقَ واقفًا يظلّ حبيس أوروبا ومخاطرها. أما الغاية القصوى، فهي الوصول إلى ما تصفه هذه الرواية بـ»برّ الأمان»: القدس.

تتعدد التفسيرات الأخرى وتتنوّع، لكنها تدور جميعها في الفلك ذاته: سردية الاضطهاد والفرار والبحث عن ملاذ آمن. وخلاصة ما تُفضي إليه هذه النظريات أنّ اليهود، في مواجهة الاضطهاد الأوروبي، وجدوا في فلسطين الوجهة الدائمة والملجأ المنشود.

غير أنّ هذا «الملاذ» لم يُبنَ من فراغ، بل قام على اغتصاب أرضٍ وتشريد شعب. فالمشروع الصهيوني لم يكتفِ بالبحث عن مأوى، بل سعى إلى اقتلاع السكان الأصليين من جذورهم. هكذا تحوّلت لعبة الكراسي من استعارة رمزية إلى واقع دموي: لا موسيقى تُعزف، بل أرواح تُزهق، ولا تنافس على مقاعد، بل انتزاع وطن بالقوة الغاشمة. وكعادتهم في تبنّي كل شيء ونسبه إلى أنفسهم، يُغلّف الصهاينة هذه المأساة برداء رومانسي مُضلِّل، يُجمّل الاحتلال والتهجير والقتل، ويُقدّمه للعالم بوصفه ملحمة إنسانية نبيلة.

كان يُفترض أن تُطوى صفحة هذه اللعبة المشؤومة بعد نكبة 1948، وأن تعود إلى أصلها: تسلية بريئة في المناسبات البهيجة. لكنّ الواقع يكشف أنّ اللعبة لم تتوقف قط، بل تُعاد اليوم على الفلسطينيين أنفسهم بوحشية مُضاعفة. ففي كل مرة يصدر فيها أمر إخلاء لأهالي غزة، تُعزف الموسيقى ذاتها، لكنها هذه المرة موسيقى الموت: يُؤمر المدنيون بمغادرة أحيائهم المدمَّرة وركام بيوتهم، تاركين خلفهم كل ما يملكون، متجهين نحو مجهول لا يعرفون عنه شيئًا. ومن لا يلحق بقافلة النازحين، ومن يتأخر عن الموعد المحدد، ومن لا يجد موطئ قدم في رحلة النجاة المزعومة، مصيره واحد: الإبادة.
حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، قدّم الغرب للعالم وعدًا كبيرًا بأن هذه المأساة قد طُويت صفحتها، وأطلق شعاره الشهير: «Never Again»

هكذا انقلبت لعبة الطفولة البريئة إلى آلة موت منهجية، تُديرها صفارات الإنذار بدلًا من الألحان، ويُرافقها الدمار بدلًا من الضحكات. تكشف التقارير أنّ نحو مليونَي إنسان في غزة تعرّضوا للتهجير القسري ست مرات على الأقل خلال العام الأول من حرب الإبادة هذه، في حين بلغ عدد مرات التهجير لدى بعضهم تسع عشرة مرة. شعبٌ بأكمله يُسحق تحت عجلات لعبة لا تنتهي، يتنقّل من نزوح إلى نزوح، بلا كراسٍ يجلس عليها، ولا مقاعد تؤويه، بل بلا أرض آمنة يقف عليها.

حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، قدّم الغرب للعالم وعدًا كبيرًا بأن هذه المأساة قد طُويت صفحتها، وأطلق شعاره الشهير: «Never Again» أي: لن يتكرر ذلك أبدًا؛ لن يُسمح باضطهاد جديد. بدت العبارة قَسَمًا جماعيًّا مُقدّسًا، إعلانًا رسميًّا بأنّ الإنسانية قد استوعبت الدرس، وأنّ حقبة الإبادات والتهجير قد طُويت إلى غير رجعة.غير أنّ الأيام كشفت زيف هذا الوعد؛ فلم يكن موجّهًا للبشرية جمعاء، بل كان امتيازًا محجوزًا لفئة بعينها. سرعان ما استُبدلت الشعارات الإنسانية بعبارات دبلوماسية مُنمّقة، تُخفي وراءها نفاقًا. فالعدالة في قاموس هؤلاء حقٌّ مشروط، لا يُمنح إلا للأقوياء. والقوة احتكارٌ لا يملكه سوى أصحاب النفوذ. والمحاكم الدولية أبوابٌ موصدة، لا تنفتح إلا لسادة العالم، أما الضحايا فيقفون خارجها ينتظرون عدالة لن تأتي.

بهذا الشكل، تحوّل الشعار الإنساني إلى رخصة سياسية، وإلى بوابة لا يُسمح بعبورها إلا لحاملي جواز القوة وحدهم. تتغيّر الأسماء وتتناوب الوجوه على المشهد، بينما تظل اللعبة هي ذاتها؛ مستمرة بلا توقف، وكأن التاريخ لا يكفّ عن إعادة نفسه في دائرة لا ترحم.

الدستور الأردنية
التعليقات (0)