ما زال الكثيرون يتساءلون، لماذا فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الجميع بما فيها وزارة الحرب "البنتاغون"، بتهديده بإجراءات محتملة بما فيها التدخل العسكري ضد
نيجيريا،البلد الأفريقي الذي يبعد آلاف الكيلومترات عن الولايات المتحدة.
لربما يتبنى البعض الرواية التي أطلقتها شبكة "
سي أن أن "، التي نقلت عن مصدرين قولهما إن الرئيس ترامب كان في طريقه إلى فلوريدا يوم الجمعة الماضي عندما شاهد تقريرا لقناة "فوكس نيوز" عن استهداف المسيحيين بنيجيريا، حيث استشاط غضبا، وعلى الفور طلب مزيدا من المعلومات حول الأمر".
"مغازلة الإنجيليين"
على ما يبدو فإن ترامب قد وجد فرصةً لإثارة حماس مؤيديه الإنجيليين، رغم أن مشاكل هذا البلد الأفريقي تتجاوز إدارة البيت الأبيض أو السياسة الأمريكية، أو سرديات "الغرب ضد أفريقيا" المُبسطة، وفق تقرير نشره
موقع UnHerd للباحث الأكاديمي ريمي أديكويا الذي أكد تعمد ترامب كعادته، إلى تبسيط الأزمة بشكل مبالغ فيه، وتصويرها على أنها مجرد حصار للمسيحيين من قِبل المتطرفين الإسلاميين، في حين أن العنف هناك غالبًا ما يكون عشوائيًا، وتُعزى العديد من الهجمات إلى نزاعات على الموارد وجرائم انتهازية مُغلفة بخطاب ديني.
وبالنظر إلى أن 46 بالمئة من النيجيريين، نحو 133 مليون شخص، يعيشون في فقر مدقع، فإن الندرة باتت سمة مميزة للحياة النيجيرية اليومية، وهو ما يغذي منافسة شرسة على الموارد والتي تحولت في الكثير من الأحيان إلى عنف طائفي مدفوع أكثر بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بدلا من الاستهداف على الهويات الدينية والعرقية.
تنبع مزاعم "ترامب" في الأيام الماضية من خطاب يروّج له بعض المشرعين وناشطي الصهيونية المسيحية اليمينيين والإعلاميين الأمريكيين الذين يصورون الأزمات الأمنية في شمال نيجيريا على أنها مستهدفة المسيحيين على يد جماعات "إسلامية" متطرفة، وقد أدى هذا الخطاب إلى أن ترامب صنّف نيجيريا كـ"دولة مثيرة للقلق بشكل خاص"، مُصرّا على وجود "تهديد وجودي ملحّ" للمسيحية في البلاد.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقع فيها نيجيريا في شبكة تصنيف إدارة "ترامب" ضمن "الدول المثيرة للقلق بشكل خاص"، حيث صُنفت البلاد في ولايته الأولى في كانون الأول/ ديسمبر 2020 في عهد الرئيس النيجيري السابق محمد بخاري، قبل أن تزيل إدارة جو بايدن نيجيريا من القائمة في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، حيث صرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن آنذاك بأن حذفها من القائمة استند إلى حقائق، وأن نيجيريا "لم تستوفِ المعايير" اللازمة لإدراجها من قبل إدارة ترامب الأولى.
اظهار أخبار متعلقة
ترامب، الذي حظي بدعم ساحق من المسيحيين الإنجيليين خلال حملاته الرئاسية، تعهد خلال انتخابات العام الماضي بمكافحة التحيز ضد المسيحيين. وقد صرّح مسؤولو الإدارة سابقًا بأن حماية المسيحيين مبدأ أساسي في سياسة ترامب الخارجية.
من يروج لهذه الادعاءات؟
يقف سياسيون محافظون وراء ترويج هذه الادعاءات، منهم النائب الأمريكي الجمهوري كريس سميث الذي دعا في آذار/ مارس إلى إعادة إدراج نيجيريا على لائحة "الدول المثيرة للقلق بشكل خاص"، وفي بداية تشرين الأول/أكتوبر، اتهم السناتور تيد كروز والنائب رايلي مور الحكومة النيجيرية بغض الطرف عن "مذبحة" تجري بحق المسيحيين، ولاقت تلك التصريحات صدى لدى سياسيين يمينيين متطرفين في أوروبا، منهم النائب البولندي في البرلمان الأوروبي دومينيك تارشينسكي، وفق تقرير
لوكالة فرانس24.
كما تروجها منظمات دينية، منها "الأبواب المفتوحة"، وهي منظمة غير حكومية نشرت تقريرًا عام 2023 جاء فيه، أن "89 بالمئة من المسيحيين الذين قتلوا في العالم هم من بلد واحد: نيجيريا"، ويرتكز سياسيون أمريكيون على تقارير هذه المنظمة الهولندية للمطالبة بفرض عقوبات على هذا البلد، وانفصل الفرع الأمريكي لمنظمة "الأبواب المفتوحة" عام 2023 وأطلق منظمة "الإغاثة المسيحية العالمية" التي تساهم أيضا في نشر رواية أن نيجيريا "عاصمة العالم للشهداء المسيحيين".
وكالة فرانس24، تنقل عن الباحث القانوني إبراهيم شاهين قوله: "إن تهديد ترامب بشن حرب لـ"حماية المسيحيين" في نيجيريا هو "غير مرتبط بالواقع الميداني بقدر ما يعكس خطابًا موجها للقاعدة الإنجيلية المحافظة في الداخل الأمريكي التي انتخبته أصلًا"، ويلاحظ أيضا أن تهديدات ترامب جاءت في الوقت الذي تنشط فيه جماعات ضغط للترويج لصالح قضية انفصاليين نيجيريين.

حيث كتبت شركة موران غلوبال ستراتيجيز التي تمثل حكومة جمهورية بيافرا في المنفى إلى أعضاء الكونغرس في آذار/مارس تحذرهم من "اضطهاد المسيحيين" في نيجيريا، وفقا لوثائق تم الكشف عنها كجزء من قواعد عمل جماعات الضغط الأجنبية، و"بيافرا"، هو اسم لدولة انفصالية في شرق نيجيريا لم تعمر طويلا، حيث أعلنت استقلالها عام 1967 وأشعلت حربا أهلية دامية استمرت حتى 1970، أودت بمليون مدني على الأقل، بسبب أن المسيحيين يتعرضون للاضطهاد في نيجيريا.
وقامت "حكومة جمهورية بيافرا في المنفى" بقيادة سيمون إيكبا، بتعيين جماعة ضغط في واشنطن يديرها عضو الكونغرس السابق جيم موران، للدفاع عن أهدافها الانفصالية وزيادة الوعي بشأن "اضطهاد المسيحيين في نيجيريا"، وفي هذا الشأن، أكد المحلل المختص في شؤون أفريقيا في مؤسسة "أكليد" الأمريكية لاد سروات أن عنف الجماعات الجهادية في نيجيريا "أعمى"، واعتبر أن مزاعم أعضاء الكونغرس عن مقتل 100 ألف مسيحي "مبالغ فيها"، ووفق بيانات "أكليد"، فقد قضى 52915 مدنيا في اغتيالات سياسية محددة الهدف منذ 2009، ويشمل الرقم المسلمين والمسيحيين.
غزو نيجيريا سيؤدي لكارثة
تحمل تصريحات ترامب تداعيات جسيمة على أبعاد متعددة. منها أنها تُفاقم التوترات الطائفية القائمة في نيجيريا، حيث إن تصوير البلاد كمكان يواجه فيه المسيحيون تهديدا وجوديا يُقوِض جهود الوحدة الوطنية والتعايش السلمي، ويُخاطر بتعميق انعدام الثقة بين المسلمين والمسيحيين من جانب، وبين الإثنيات المختلفة من جانب آخر.
وفي تحليلٍ نشرته مجلة فورين بوليسي، حذّر الكاتب وعالم اللسانيات النيجيري كولا توبوسون من العواقب الوخيمة لأي تدخل عسكري أميركي محتمل في نيجيريا بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي ألمح فيها إلى "غزو" البلاد بحجة حماية المسيحيين، وأوضح أن مثل هذه الخطوة ستكون كارثة على دولة تعاني أصلا انقسامات دينية وعرقية وسياسية عميقة.
ويخلص توبوسون إلى أن نيجيريا -التي يعيش فيها نحو 240 مليون نسمة "جُمِعوا قسرا" بفعل الاستعمار البريطاني- غالبا ما حافظت على وحدتها بــ"القوة العسكرية"، وتحتاج إلى حلول داخلية عميقة تعالج جذور الفقر والفساد والتهميش، لا إلى مغامرة عسكرية خارجية ستزيد الانقسام وتفاقم الأزمات، وفي حال هاجمت الولايات المتحدة نيجيريا، فسيؤدي ذلك إلى انضمام دول أفريقية أخرى إلى مجموعة دول الساحل والصحراء، مما سيُقلل من نفوذ نيجيريا في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، بل أن الجماعات المسلحة مثل جماعة بوكو حرام وتنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا وعصابات الجريمة المنظمة في شمال نيجيريا سيساعدها على الانتشار جنوبا، مما قد يؤثر على دول مثل وتوغو والكاميرون.
توتر العلاقات مع الدول الأفريقية
يقول موقع ستراتفور الأمريكي في تقرير له، إنه من الناحية الإستراتيجية، فإن أي تدخل أمريكي أحادي قد يؤدي إلى توتر العلاقات مع معظم الدول الأفريقية، التي من المحتمل أن تبحث عن تعزيز شراكاتها الدفاعية مع قُوَى أخرى مثل الصين وروسيا ودول الشرق الأوسط.
وفي الوقت نفسه، فإن استمرار موسم الجفاف في نيجيريا سيزيد من التنافس بين المزارعين والرعاة على المياه والأراضي الصالحة للرعي، ما يرفع احتمال وقوع مواجهات جديدة، ويجعل الضغط الأميركي على نيجيريا أكثر إلحاحا، في ضوء كل ما سبق، يستنتج ستراتفور، أن الولايات المتحدة ربما لن تتسرع في التدخل العسكري المباشر إلا في حال تفاقم العنف الطائفي بشكل كبير وأسفر عن سقوط عشرات الضحايا.
خريطة الهجمات تكذب الادعاءات
كذلك، تشير البيانات إلى وقوع ما لا يقل عن 389 حالة عنف استهدفت المسيحيين بين عامي 2020 و2025، أوقعت 318 قتيلًا على الأقل، وخلال نفس الفترة، استهدف 197 هجومًا مسلمين، أسفرت عن 418 قتيلا على الأقل، وشككت تقارير ميدانية وأمنية في دقة مزاعم ترامب، إذ أفادت منظمة "مشروع بيانات مواقع وأحداث النزاعات المسلحة (ACLED)" بأن أكثر من 20 ألف و400 مدني قتلوا في نيجيريا بين كانون الثاني/يناير 2020 وأيلول/سبتمبر الماضي، من بينهم 317 ضحية في هجمات استهدفت المسيحيين، مقابل 417 ضحية في هجمات استهدفت المسلمين.
وأوضح نامدي أوباسي، المستشار البارز في "مجموعة الأزمات الدولية"، لشبكة "سي أن أن"، أن الجماعات المتطرفة في شمال شرق نيجيريا "تسببت في معاناة كل من المسيحيين والمسلمين"، بينما "عانت المجتمعات الزراعية ذات الأغلبية المسيحية في الشمال الأوسط من عنف الجماعات المسلحة"، في حين "تعرضت القرى ذات الأغلبية المسلمة في الشمال الغربي لهجمات متكررة من عصابات قطاع الطرق"، تكذب خريطة أنشطة الجماعات الإرهابية في نيجيريا وضحاياها مزاعم ترامب الأخيرة؛ إذ تُقدر نسبة المسيحيين في شمال نيجيريا بأقل من 4%، وهي المنطقة المقصودة في تصريحاته.
وفي حين أن تصريحات ترامب وتهديداته الأخيرة بالتدخل العسكري لم تُؤخذ على محمل الجِد من قبل جلّ المسؤولين النيجيريين، حيث أصدرت الحكومة النيجيرية بيانات تدحض ادعاءاته، ورحبت بالمساعدة الأميركية، وتشكيل أرضية مشتركة لمحاربة "الإرهاب" تحترم السيادة النيجيرية، وقال بايو أونانوجا، المتحدث باسم الرئاسة النيجيرية، بعد أن أصدر الرئيس الأمريكي تعليماته للبنتاغون بالاستعداد لعمل عسكري محتمل: "نشعر بالصدمة من أن الرئيس ترامب يفكر في غزو بلادنا"، ومع ذلك، أثار هذا التطور نقاشات في الداخل النيجيري، إذ يأتي بعد أسابيع من أحداث أخرى، شملت شائعات مؤامرة انقلابية للإطاحة بالرئيس النيجيري الحالي بولا تينوبو، مما أدى إلى اعتقال أكثر من 40 ضابطا، وإجراء تغييرات كبيرة في رؤساء الأجهزة الأمنية النيجيرية، مع إقالة عشرات آخرين.
"ليس إبادة ضد المسيحيين بل هو أسوأ"
في مقال مشترك بصحيفة تلغراف البريطانية، يؤكد الكاتبان فولا فاغبولي وفَيِّي فاوينهمي أن ما يحدث في نيجيريا لا يمكن اختزاله في "إبادة جماعية ضد المسيحيين"، كما تُصوّره بعض الجهات الدولية وخصوصا المسؤولين الأميركيين، وفي اعتقادهما أن الأمر أسوأ وأعمق من ذلك، فهو انهيار ممتد لمؤسسات الدولة والعدالة والحكم الرشيد عبر أجيال، مما خلق بيئة من انعدام الثقة والعنف المتبادل بين المجتمعات المحلية.
قبيل الحرب الأهلية في نيجيريا، ظهرت التوترات العرقية والإقليمية نتيجة للتنافس وعدم المساواة بين المحميتين، خاصة بعد التعداد السكاني الذي أثار جدلا عام 1962. وعلى الرغم من تقسيم المنطقة الغربية لتهدئة الصراعات، فإن الانقسامات العرقية استمرت، إذ سيطرت مجموعات إقليمية على الغرب والشرق والشمال، الأمر الذي زاد من التوترات، وتفاقمت الأزمة مع الانقلابات العسكرية المتكررة، التي أدت إلى وصول الجيش في يوليو/تموز 1966 إلى السلطة بقيادة ياكوبو جوون، وزادت التوترات بسبب أعمال الشغب الطائفية والتهديدات بالانفصال في الجنوب.
ترامب يعيد تشكيل النظام العالمي وفق رؤيته الخاصة
وفي مقال رأي بصحيفة وول ستريت جورنال، يجادل الكاتب والتر راسل ميد بأن رؤية الرئيس ترامب للسياسة الخارجية ليست انعزالية، بل تهدف إلى إعادة تشكيل النظام العالمي وفق رؤيته الخاصة، ويرى أن ترامب يسعى إلى تخليص الولايات المتحدة من الأعباء الناتجة عن التحالفات والمؤسسات التقليدية من خلال تبني إطار "القوى الكبرى" حيث تختار واشنطن شركاءها بعناية أكبر وتسعى الى مصالحها بقوة أكبر.
اظهار أخبار متعلقة
وفي تقديره، أن نشاط ترامب المفرط المتمثل في تهديده بغزو نيجيريا، وصدامه التجاري مع الصين، وإدارته للأزمات في الشرق الأوسط وأفريقيا، ليس عشوائياً كما يبدو، بل يقوم على منطق داخلي يعتبر أن سياسات الحزبين الجمهوري والديمقراطي منذ نهاية الحرب الباردة أضعفت الولايات المتحدة وقوّضت مكانتها.