مقالات مختارة

السودان يلحق بقافلة الاستباحة

علي محمد فخرو
جيتي
جيتي
عندما تراصّت صفوف عشرات الملايين من نساء ورجال السودان الشقيق وأسقطوا حكماً ديكتاتورياً ارتكب مئات الأخطاء والمظالم ضدّ شعبه الأفضل والأكثر تسامحاً وتعايشاً بسلام، استبشر الملايين من إخوتهم العرب والمسلمين بأن يكون المشهد السوداني، وتكون نتائج نضال شعبه من أروع الأمثلة النضالية الجماهيرية الناجحة.

وفعلاً نجحت تلك الثورة الشعبية بحق، لكنها بعد ذلك ارتكبت الأخطاء نفسها التي ارتكبها غيرها في العديد من الأقطار العربية الأخرى، من انقسامات بين المحاربين المنتصرين، ومن انصياع لإغراءات ووعود الخارج الكاذبة، ومن انحيازات متباينة مع مختلف القوى الداخلية، وعلى الأخص الأمنية منها والعسكرية، ما أدى في النهاية إلى فشل تلك الثورة الرائعة، ورجوع الحكم العسكري والأجواء الأمنية المرعبة السابقة.

اليوم يصل ذلك المشهد الموجع إلى قمة صوره، لكنه مشهد بالغ التعقيد الداخلي، وبالغ السقوط في يد الخارج الاستعماري، والخارج العربي العابث، وبالغ التشابه بما جرى لغزة العزيزة وشعبها، من ترحيل وجوع وعطش واغتصاب للنساء، ونحر للأطفال ومستقبل لا في يد أهل السودان، وإنما في يد أمريكا وشتى خدمها المطيعين من الخارج والداخل.

هذا الشعب السوداني الطيب الرقيق يقع الآن البعض منه في قبضة وجنون من وصفهم الكاتب السوداني بركة ساكن «بمن نشأوا على القتل، ويطلقون النار لأتفه الأسباب، وبمن لا أخلاق لديهم إذ يطأ الواحد منهم أمّه أو أخته دون حياء ودون أن يرفّ له جفن. وهم يتسمّون باسم جنجويد، الذي يعني الرجل الذي يركب جواداً ويحمل مدفعاً رشاشاً».

ما يوجع القلب هو أن هذه الميليشيا المليئة بمكونات وسلوكيات كل تلك الرذائل والشرور، حوّلها رسمياً ديكتاتور السودان السابق منذ عام 2013 إلى قوة نظامية باسم قوّات الدعم السريع، وأسند قيادتها إلى الشخص نفسه الذي يقودها ويتحكم بها في اللحظة الحاضرة، والذي أصبح أغنى رجل في السودان، بفضل تهريبه للذهب السوداني وتحالفه مع الخارج العربي والاستعماري.

وما يوجع القلب أكثر أن هذه القوة النظامية أصبحت حليفة لفترة قصيرة للجيش السوداني عام 2021 من أجل إسقاط الحكومة المدنية، التي جاءت بها ثورة السودان العظيمة، ولينتهي الأمر إلى تساقط ذلك الحلف، ودخول السودان في جحيم الصراع الحالي الذي أدخل هذا الشعب الطيب في أتون الجحيم الذي نراه الآن أمامنا، والذي يذبح في أتونه الرجال الذين ضحوا من أجل قيام الثورة، وتغتصب النساء العفيفات الطاهرات اللواتي خرجن بالملايين إسناداً للثورة.
ليس المشهد السوداني موضوعا داخليا حتى تقف الجامعة العربية ومنظمة التعاون العربي الإسلامي موقف المتفرج العاجز

وهكذا تضافرت الأطماع المادية والبلادات السياسية والانتهازيات المؤقتة لتصنع الخنجر وتسلمه بيد ميليشيا الجنجويد، ليغرسوه في جسد ما حققته الثورة من أهداف وليطعنوا به شرفاء وشريفات أبطال ثورة السودان الرائعة. كل ذلك الطعن في الجسد والأحلام والآمال السودانية بينما أخوانهم وأخواتهم العرب والمسلمون يقفون متفرجين، تماماً كما فعلوا عندما وقفوا أمام مشهد غزة المريع طيلة سنتين متفرجين عاجزين.

ليس المشهد السوداني موضوعا داخليا حتى تقف الجامعة العربية ومنظمة التعاون العربي الإسلامي موقف المتفرج العاجز، فإغراءات ثرواته الكبيرة تسيل لعاب القوى الإقليمية والاستعمارية وتجعل كل ما يجري على أرضه الآن جزءاً من حبكة إقليمية ودولية متشابكة مع أطماع جهات داخلية.

وإذا كان وضع قطر عربي يستحق الإعانة باسم العروبة والإسلام، فهو القطر السوداني الشقيق، وإذا كانت الالتزامات القومية والإسلامية لا تتحرك استجابة لظروف مأساوية موجعة كهذه، فمتى إذن ستتحرك؟ وهل وصل بنا الأمر إلى ما عملت إيصالنا إليه أمريكا وذراعها الصهيوني في فلسطين المحتلة عبر الخمسين سنة الماضية، وهو جعل الإنسان العربي شيئاً فشيئاً، وعلى جرعات متتالية، يكفر بروابط والتزامات العروبة والإسلام؟ ولم لا؟ طالما أن المتلاعب الأمريكي ترامب هو الآمر والناهي بشأن كل أمر عربي.

إنها أسئلة وجودية تثبت الأزمنة أنها ستكون معنا لسنين طويلة مقبلة، وستغطي كل شبر من أرض العرب المستباحة من كل من هب ودب.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل