مقالات مختارة

فرح حزين في رام الله!

رشاد أبو داود
الأناضول
الأناضول
للْفرح لون، رأيناه أمس في عيون دامعة، رأت أبا لأول مرة منذ اعتقاله قبل عشرين سنة، في يدي أم طوقت ابنها المحكوم خمس مؤبدات، في لهفة أسير له ثلاثة أبناء، كانوا أطفالا عندما اعتقل. كانوا في استقباله في رام الله. راح يسألهم، أيهم محمد وأيهم حسن وأيهم صامد. كبروا وهو في المعتقل، وهو.. كبر في زنزانة.

كم أمضيت في المعتقل؟ تسأل المذيعة. يقول أحد الأسرى المحررين ثلاثين سنة، آخر يقول خمسا وعشرين، آخر يقول كنت محكوما خمسة مؤبدات، آخر ثلاثة.

أصبحوا في الفضاء الأزرق، بلا قيود تركت ندوبا على معاصمهم. يتنفسون هواءً ليس ملوثا بأنفاس خنزيرية، بلا صراخ السجان المسجون في خرافة «الدولة» التوراتية المزعومة.
للفرح رائحة زعتر الحاكورة، ميرمية شاي الأم في حوش الدار، لطبخة مقلوبة، لمنسف مكتنز باللحمة، لمسخن من جاجات الأخت التي كانت حين اعتقل صغيرة وصار لها أحفاد.

لكاسة شاي مع أصدقاء فرقت بينهم وبينه قضبان السجن، ولفراش فيه رائحة البيت.

1968 أسيرا تحرروا مقابل عشرين رهينة صهيونيا، ولم يزل عشرات الآلاف قيد الأسر.

الاحتلال اشترط عدم استقبالهم بأجواء احتفالية، السبب أنهم لا يريدون للفلسطيني أن يفرح ولو بعد عشرات السنين من الأسر والفراق والعذاب والتعذيب الذي تضاعف في السنتين الأخيرتين على يد شرطة المستوطن الإرهابي بن غفير.

في الباصات التي أقلتهم من ظلام السجن إلى فضاء الحرية وشمس البلاد، كانوا يخرجون رؤوسهم، وما استطاعوا من أجسادهم التي فقدوا نصفها في السجن، ليروا أهلهم. يمدون أيديهم ليلمسوا من لم يلمسوهم منذ دهر في السجن.

بالكاد يتذكرون، بالكاد يتعرفون على أقاربهم. هذا شاب يقفز ليسلم على أبيه الذي يعرفه من صوره التي ظلت معلقة على حيطان البيت وفي قلب الأم الصابرة التي ربتهم وعلمتهم ورعتهم.

تسأل مذيعة أخرى: ما شعورك وقد تحررت اليوم؟ مش مصدق إني طلعت من السجن، حتى قبل ساعة من خروجي لم أكن أعلم أن اسمي بين المحررين. كانوا يتلاعبون بأعصابنا، لكنه لا يقاس بالحرب النفسية التي كانوا يمارسونها ضدنا في السجن. تعذيب وتجويع وكسر أضلاع وحرمان من الاغتسال حتى أصيب بعضنا بأمراض جلدية خطيرة.

في استقبال الأسرى المحررين كان ثمة بعض حزن وكثير من خيبة الأمل. أم انتظرت ابنها المعتقل منذ عشرين عاما، انهارت عندما أبلغوها أنه مبعد إلى مصر. أخ انتظر عناق أخيه فعانق استمرار الحرمان. أخوك باقٍ في الأسر.

أما أم الشهيد الصحفي صالح الجعفراوي الذي قتلته عصابة أبو شباب العميلة للاحتلال، فقد انقسم قلبها نصفين. فقد استشهد ابنها صالح قبل يوم من تحرر ابنها الآخر ناجي.
لا أصعب من أن يمتزج الفرح بالحزن، لكنها الدياسبورة الفلسطينية!

في رام الله كان احتفال بالأسرى المحررين، وفي شرم الشيخ كانت احتفالية بتنصيب ترمب رئيسا للسلام. وليس أمام الفلسطينيين سوى الانتظار، إذا صدق!

الدستور 
التعليقات (0)

خبر عاجل