قضايا وآراء

تصريح الزبيدي ليس جنونا.. بل إفصاح عن مشروع إماراتي في اليمن بدأ منذ 2016

أنيس منصور
"الزبيدي لم يكن يتحدث من فراغ، وإنما من واقعٍ ميداني عملت الإمارات على هندسته منذ سنوات"- جيتي (أرشيفية)
"الزبيدي لم يكن يتحدث من فراغ، وإنما من واقعٍ ميداني عملت الإمارات على هندسته منذ سنوات"- جيتي (أرشيفية)
أثار تصريح عيدروس الزبيدي لقناة الحرة الأمريكية، عندما قال إن تعز ومأرب ستكونان ضمن دولة الجنوب العربي القادمة، موجة من الجدل والسخرية في آنٍ واحد، حتى وُصف كلامه من قبل كثيرين بأنه "جنون سياسي"، لكن هذا التوصيف السريع أغفل خلفياتٍ أعمق تتعلق بمنطق المشروع الذي تقوده الإمارات والقوات التي تتبع في ولائها لأبو ظبي، وبالخرائط الجديدة التي تم فرضها على الأرض.

فالزبيدي لم يكن يتحدث من فراغ، وإنما من واقعٍ ميداني عملت الإمارات على هندسته منذ سنوات، وبالتحديد من سواحل تعز وريفها الغربي الجنوبي. حين يعلن رئيس "المجلس الانتقالي الجنوبي" أن تعز ومأرب ستكونان ضمن ما يسمى بـ"الجنوب العربي"، فهو في الحقيقة يكشف عن النوايا الإماراتية المضمرة في إعادة ترسيم حدود اليمن بطريقة تتجاوز التقسيم الشمالي-الجنوبي التقليدي، باتجاه مشروعٍ أوسع يقوم على المناطق الاقتصادية والنفوذ البحري.

تصريح الزبيدي ليس جنونا في منطق السياسة، بل هو تعبير واضح عن رؤية أبوظبي لمستقبل اليمن: فصل الريف الجنوبي لتعز (الحجرية-المعافر-التربة) وربطه إداريا بالساحل لخلق منطقة نفوذ إماراتية مستقلة عن مدينة تعز.

الحقائق الميدانية والمشاريع المعلنة والطرق التي تموّلها الإمارات كلها تشير إلى أن الهدف النهائي هو تأمين الطريق إلى الانفصال الجنوبي، ليس سياسيا فقط، بل اقتصاديا وجغرافيا. فبدون ضم سواحل تعز وريفها، يبقى الجنوب المعزول عن باب المندب ناقصا في معادلة السيطرة

الكثير من المراقبين الذين وصفوا التصريح بالجنون، قرأوه بعين العاطفة الوطنية لا بعين الجغرافيا الاستراتيجية. فالإمارات لم تبنِ قواعدها في المخا وميون وسقطرى عبثا، ولم تنشئ تشكيلات مثل "العمالقة" و"حراس الجمهورية" و"الألوية التهامية" وغيرها إلا لتكون أدوات خرائط وليس أدوات معارك.

وما قاله الزبيدي هو التعبير اللفظي لمشروعٍ تتبناه الإمارات بهدوء منذ العام 2016، هدفه تأسيس كيان بحري-اقتصادي يمتد من عدن إلى المخا، ومن هناك إلى باب المندب وسقطرى، ثم ربطه بمنظومة الموانئ الإماراتية (دبي، الفجيرة، أبو ظبي) ضمن ما يمكن تسميته "دائرة النفوذ البحري الإماراتي". لذلك فإن السخرية من التصريح تعكس قصور الفهم لا جنونه؛ فالجنون الحقيقي هو أن تمر هذه المشاريع دون أن تُقرأ بعمق.

فما يجري في أرياف تعز من نشاط إماراتي، وما يحدث في سواحل المخا وميون وسقطرى، وما يرافقه من محاولات إعلامية لتسويق "الجنوب العربي الجديد" ليست تحركات معزولة، بل أجزاء من خطة واحدة تعيد تشكيل اليمن على الطريقة الإماراتية: دولة مفككة، وسواحل مُسيطر عليها، وموانئ محايدة تُدار من الخارج.

دعونا نسأل هذا السؤال: ما الذي ينقص انفصال الجنوب عن شمال اليمن؟ وما علاقة ذلك بالدور الإماراتي في سواحل تعز وعمقها الجغرافي الحجرية- صبر؟

أسئلةٌ تفتح الباب على واحدة من أكثر القضايا حساسية في المشهد اليمني، حيث تتحول أرياف تعز إلى ميدانٍ مفتوحٍ لمشروعٍ جيوسياسي تسعى من خلاله أبو ظبي لإعادة رسم حدود النفوذ جنوب البحر الأحمر بما يخدم مصالحها التجارية والأمنية.

منذ العام 2016 عملت الإمارات على تكثّيف حضورها ونشاطها في أرياف محافظة تعز، مستغلة ضعف حكومة الشرعية، حيث قامت بإنشاء جيش مستقل عن تعز يجاري الاستقلال الإداري للحجرية- صبر، وأكثر من ذلك عملت على شيطنة بعض القوى مثل الإصلاح، واستغلت حس بعض القوى السياسية مثل المتنازعة مع الإصلاح على امتلاك اللواء 35، مثل الاشتراكيين والناصرين، وزرع ذلك في تصور أتباعهم مما جعلهم يقبلون بالتحالف معها.

منطقة الحجرية، المطلة على الساحل التعزي والمتصلة جغرافيا بالساحل الغربي حتى الوازعية، تعدّ مركز الثقل الحقيقي للتحركات الإماراتية. تمتد هذه المناطق من مديرية المخا والمعافر والمواسط والشمايتين والمواسط وجبل حبشي والمسراخ، وصولا إلى التربة والمقاطرة، وهي مناطق آمنة وخالية من الحوثيين. لذلك تحولت منذ سنوات إلى ساحة نفوذ للإمارات، حيث عملت عبر أدواتها المحلية، وعلى رأسها اللواء 35، على فتح معسكرات تدريب جديدة وتزويدها بالأسلحة المتوسطة والثقيلة، ونشر العربات والمدرعات في القرى والمناطق الريفية الآمنة.

في عام 2018 زارت قيادات عسكرية إماراتية منطقة الصُّنّة في مديرية المعافر، وكان الهدف إنشاء معسكر وغرفة عمليات في جبل حريم بالمنطقة، ليكون المقر الرئيس للحزام الأمني التابع لتعز. اختيار الموقع لم يكن عبثيا، إذ تطل الصنّة على طرق استراتيجية تربط الساحل بالمرتفعات، غير أن الرفض الشعبي حينها واحتجاج الأهالي، حال دون ذلك. إلا أن الإمارات تواصل تنفيذ خطتها بطرق ناعمة: شراء الولاءات، وتمويل القيادات العسكرية والوجهاء، وضخ الأموال لإنشاء تشكيلاتٍ محليةٍ تدين لها بالولاء.

المؤشرات كلها تشير إلى نية الإمارات تنفيذ خطتها القديمة بإنشاء معسكرٍ رئيسي في المنطقة نفسها، ليكون قاعدة عسكرية خلفية لما يُراد تسميته لاحقا "محافظة الحجرية"، المُمهدة لضمها إداريا إلى الجنوب كذريعةٍ لشرعنة السيطرة على الساحل التعزي.

الدور الإماراتي في أرياف تعز ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى 2016 عندما تم تعيين القيادي أبو العباس من قِبل التحالف قائدا لجبهة الكدحة في المعافر. الكدحة، المتاخمة للصنّة، تمثل البوابة الغربية للريف التعزي، وهي نقطة استراتيجية للربط بين مناطق الضواحي الغربية لتعز ومناطق الوازعية المطلة على الساحل، ما جعلها هدفا رئيسيا في خطة السيطرة الإماراتي. والإمساك بالكدحة مكّن أبو ظبي من ربط العمق الريفي بالساحل الغربي، بما في ذلك المخا وذباب وموزع وباب المندب، وهي مناطق أصبحت فعليا تحت سلطة القوات الموالية لها.

وهكذا تكتمل حلقة الطوق الجغرافي، لتصبح الحجرية وصبر معزولتين عن مركز محافظة تعز، ومرتبطة إداريا وعسكريا بالمناطق الساحلية، في خطوةٍ تُعدّ تمهيدا واقعيا لإعلان "محافظة الحجرية" ضمن نطاق الجنوب.

هذه السياسة تفسر أيضا اهتمام الإمارات بتمويل مشاريع ظاهرها إنمائي، مثل طريق النشمة-المخا، لكنها في الحقيقة مشاريع وظيفية تخدم خط الربط بين الريف والساحل، لتأمين الممر العسكري والاقتصادي نحو البحر. ومع اكتمال هذا الطريق أصبحت السيطرة على الساحل التعزي محسومة عمليا، وسيتحول الريف إلى منطقة دعمٍ لوجستي للموانئ التي تُدار إماراتيا.

إنّ ما يجري في أرياف تعز يتجاوز الحسابات المحلية، فهو جزء من استراتيجية إماراتية أوسع هدفها إحكام القبضة على الممرات البحرية الحيوية في البحر الأحمر وباب المندب، وتأمين منافذ بديلة لموانئ دبي.

الحقائق الميدانية والمشاريع المعلنة والطرق التي تموّلها الإمارات كلها تشير إلى أن الهدف النهائي هو تأمين الطريق إلى الانفصال الجنوبي، ليس سياسيا فقط، بل اقتصاديا وجغرافيا. فبدون ضم سواحل تعز وريفها، يبقى الجنوب المعزول عن باب المندب ناقصا في معادلة السيطرة.

الهدف الآخر الصريح والمكمل لهذا المخطط هو تضييق الخناق على حزب الإصلاح الذي يحافظ على وجوده ونفوذه في ما تبقّى من تعز، عبر تفكيك الروابط الجغرافية واللوجستية، وخلق هياكل أمنية موازية وولاءات محلية جديدة، لتُحرَم أجنحة الإصلاح من امتداداتها الساحلية واللوجستية، فتُصبح محصورة داخل المدينة بلا منافذ بحرية أو اقتصادية مستقلة.

المشروع لم يعد يحتاج إلى قراءة نوايا، فقد تجاوز مرحلة التلميح. الإمارات تبني قواعد عسكرية، وتتحكم في الموانئ، وتدير خطوط الإمداد، وتموّل المليشيات المحلية، وتتحرك بخطة واحدة عنوانها "إعادة تشكيل اليمن بما يخدم مصالحها الأمنية والتجارية"

هذا الحصار السياسي واللوجستي لا يهدف فقط إلى تقويض قوة الإصلاح العسكرية، بل إلى إضعاف قاعدته الاجتماعية والاقتصادية، وحرف ميزان النفوذ المحلي لصالح فصائل وأشخاص يدينون بالولاء لمشروعات خارجية. النتيجة المتوقعة خلق واقع جديد يجعل من تعز مدينة معزولة سياسيا واقتصاديا، وتُستغل سواحلها لصالح منظومة نفوذية تمتلك الشريان البحري والمالي.

بالمجمل، نحن أمام مشروع متكامل لإعادة توزيع الجغرافيا والنفوذ في اليمن، بدأ فعليا من السواحل ويمتد الآن إلى العمق الريفي. والإمارات تتصرف وفق خطةٍ طويلة المدى تهدف إلى تثبيت حضورها في البحر الأحمر والتحكم بممراته التجارية من خلال شبكة من القواعد والموانئ والمليشيات المحلية.

ومنطقة الحجرية وصبر تمثل النقطة الأهم في هذه الخطة؛ السيطرة عليها تعني التحكم في أكثر من نصف سكان محافظة تعز، أي السيطرة على الكتلة السكانية التي تشكل مركز الوعي السياسي والمزاج الثوري في المحافظة. لذلك تتعامل الإمارات مع هذه المناطق باعتبارها الخزان البشري الذي يجب تحييده قبل أي شيء آخر، فالسيطرة على الجغرافيا لا يمكن أن تكتمل دون السيطرة على الناس.

ما يجب أن يُقال بوضوح هو أن هذا المشروع لم يعد يحتاج إلى قراءة نوايا، فقد تجاوز مرحلة التلميح. الإمارات تبني قواعد عسكرية، وتتحكم في الموانئ، وتدير خطوط الإمداد، وتموّل المليشيات المحلية، وتتحرك بخطة واحدة عنوانها "إعادة تشكيل اليمن بما يخدم مصالحها الأمنية والتجارية". بالتالي فان مواجهة هذا المشروع ضرورة وطنية، فالصمت لم يعد يعني الحياد، بل المشاركة في صناعة واقعٍ جديد يُقصي اليمنيين عن قرارهم. المطلوب اليوم بناء موقف سياسي موحد يدرك طبيعة الخطر ويمتلك خطة واضحة لمواجهته، فالسكوت عن هذا التمدد في ريف تعز سيقود حتما إلى فقدان السيطرة على كامل الساحل الغربي، ومعه سيتحول البحر الأحمر إلى مجال نفوذٍ أجنبي كامل، وتصبح تعز -بما تمثله من ثقل سياسي وسكاني- مدينة محاصرة داخل وطنٍ لم يعد لها فيه مكان. إن ما يحدث الآن هو اختبار حقيقي لوعي القوى اليمنية: إما أن تتحرك لحماية ما تبقّى من استقلال البلد، أو تستيقظ لاحقا لتكتشف أن الجغرافيا تغيّرت، والقرارات تصدر من خارج الحدود.
التعليقات (0)